حَسَدُونَا على الإِسلام وحَسَدُونا على السُّنَّة!!
أُلقِيَت يوم الجمعة 30 المحرّم 1437هـ الموافق لِـ: 13 نوفمبر 2015م.
وصفَ اللهُ تعالى اليهودَ بالحسَد في قولِهِ: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾[النساء:54]... قال أهلُ التفسير: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، ﴿النَّاس﴾ المرادُ بهم: النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) وحدَهُ... حَسَدوهُ على النُّبوةِ، حَسَدُوهُ على اصطِفاءِ اللهِ لهُ بالرِّسالة وتنزيل القرآنِ عليهِ...
وهناك قولٌ ثانٍ: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، ﴿النَّاس﴾ «يعني: النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم)، وأبا بكر، وعمر»[1]... رُويَ هذا القول عن علي بن أبي طالبٍ (رضي الله عنه).. وكما حسدُوا النَّبِيَّ حسدُوا أخصَّ الناسِ بهِ وأحبَّهُم إليهِ وأقربهم منه، وأعظمهم قيامًا في نصرةِ هذا الدِّينِ، فمنزلتُهما مِن الدِّينِ مَنزلةُ السمع والبصرِ مِن الرأسِ.
وقولٌ ثالثٌ: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، المرادُ بِـ﴿النَّاس﴾: محمدٌ وأصحابُهُ، حسدُوهم على ﴿مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾؛ مِن النُّبُوَّةِ والنَّصْرِ وقَهْرِ الأَعدَاءِ..
ورُبَّما قولٌ رابعٌ: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾، المرادُ بِـ﴿النَّاس﴾: النَّبِيُّ ومن آمنَ بِهِ، حسدُوا المؤمنينَ والأُمَّةَ على ما شرَّفهم اللهُ بهِ من هذا النَّبِيِّ الكريمِ، حسدُوهُم على أن جعلَ اللهُ وراثةَ النُّبُوَّةِ فيهِم، حسدُوهُم على ﴿مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾؛ مِنَ الشَّرفِ في الدِّينِ والدُّنيا... وهذا الحَسَدُ مُستمِرٌّ بَاقٍ إلى يومِ القيامَةِ...
والمقصُودُ: أنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ أنَّ كثرةَ نِعَمِ اللهِ على محمدٍ ومن آمنَ بِهِ؛ صَارَ سببًا لحَسَدِ هؤلاءِ اليهودِ!... وقد نصَّ نبيُّنا (صلى الله عليه وسلم) على أمورٍ هي أشدُّ ما حسدتنَا عليهِ يَهُود!؛ عن عائشة (رضي الله عنها)، عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قال: «مَا حَسَدَتكُمُ اليَهودُ على شيءٍ مَا حَسَدَتكُم على السَّلامِ والتَّأمِين»، وفي حديثٍ آخر: «إِنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ذُكِرَت عندَهُ اليَهودُ، فقال: إِنَّهُم لم يَحسُدُونَا على شيءٍ كمَا حَسَدُونَا على الجُمعةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وضَلُّوا عنها، وعلى القِبلَةِ التي هَدَانَا اللهُ لها وضَلُّوا عنها، وعلى قَولِنَا خلفَ الإمامِ: آمين»[2]...
ـ أيها المسلمون!... ومِن بواعِث هذا الحَسَد أيضًا: شِدَّةُ العَداوةِ والبغضاء التي امتلأَت بها صُدورُهم على الإسلام ونَبِيِّ الإسلام وأتباعِ الإسلام، قال الله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾، فَذكرَ اللهُ تعالى عداوةَ اليهُودِ للمُسْلِمِين، بل نَبَّه على أنَّهُمْ أَشَدُّ في العداوةِ مِن المُشْركين...
نعم! أيها المسلمون! عداوة شديدة لنبيِّنَا (صلى الله عليه وسلم)، حتَّى إنْ كادُوا ليقتلونهُ بنظراتِ عيُونهِم، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيَزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِم﴾، أي: مِن شِدَّةِ تَحْدِيقِهِم، ونَظَرِهِم إِلى رسولِ اللهِ شَزَرًا؛ بعُيُون العداوةِ والبغضاء يَكادُونَ يَزلِقُونَ قَدمَهُ ويصرعونه ويوقعونهُ أرضًا صريعًا، كما يقالُ: نظر إليَّ نظرًا يَكادُ يَصرَعُنِي ويَكَادُ يَأكُلُنِي!... خَبَّرَ اللهُ تعالى بِشِدَّةِ عداوتِهِم للنَّبِيِّ (صلى الله عليهم وسلم)، وأرادُوا أَن يُصِيبُوهُ بِالعَين، يقولُ: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيَزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِم﴾، «أي: ليَغتَالُونَكَ ويقتلونَكَ بعُيُونِهِم؛ عداوةً لكَ»... والمقصودُ: «يَحْسُدُونَكَ لبُغضِهِم إِيَّاكَ لَولاَ وِقايةُ اللهِ لكَ، وحِمايتُهُ إِيَّاكَ مِنهُم».
أيها المسلمون!... هكذا يحسدُونَ نبيَّكم ويحسدُونكم، هكذا يَعملُون على إِلحَاقِ الضَّرَرِ بكُم وإِدخَالِ الشَّرِّ عليكُم بكُلِّ طريقٍ، وليسَ مِن سَبَبٍ لهذه العداوة والحسد إلاَّ ما أنتُم عليهِ مِن الدِّين الحقِّ، والاِنتساب الصِّدق لهذا الرسول الكريم، ليسَ من داعٍ لهم إلى عداوتكم إلاَّ ما أنعمَ اللهُ بهِ عليكم من نعمةِ الإسلام!.. فاثبتُوا على الإسلام الذي هداكم الله إليه وأضلّهم عنهُ، اثبتوا على سنة النبيِّ الكريم الذي ما شرُفتُم إلا بالانتماءِ إليهِ ولا رُفِعَ لكُم ذِكْرٌ إلاّ باتباعِهِ... واعلموا أيها المسلمون! أنه لن يجدي عليكم مجرد الاِنتساب شيئًا ما لم يكن على ذلك برهان تصديقٍ!؛ بِتحقيقِ التوحيد والاِتِّباعِ للرسولِ الكريم (صلى الله عليه وسلم)، فما أنعم الله على المسلمين الأولين بالنصر وقهر الأعداء إلا بذلكَ، فكانوا أتباعَ النَّبِيِّ حقًّا، أَمَا والأمةُ اليومَ – إلا من رحم الله- قد عصت وخالفت وبدّلت وغيّرت، فلهذا تَخَلَّف النصرُ عنها وتسلّط عليها أعداؤُها وجعل الله للكافرينَ عليها سبيلاً! وقد حقَّ عليهم قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، هذه نتيجةُ مخالفةُ أوامر الرسول!..ذُلٌّ وهوانٌ وتسلُّطُ الأعداء ووقوعُ الظلم والجَوْر علينا مِمَّن لا يَرحمُنَا!... أما عداوة اليهود والمشركين لنَا – وما يحصل لإخواننا اليومَ وقبلَ اليوم بأرض فلسطينَ على أيدي اليهود العصاة العتاة قتلة الأنبياء-، فمَا هُو إِلاَّ مَظهرٌ مِن مظاهر حسَدِهِم! ومُضادَّتِهم لدينِ اللهِ.... وإنّما الذي ينبغي أن نُذَكِّرَ بهِ هُوَ: أنَّنَا إنَّمَا نَدفَعُ حسَدَهُم وبَغْيَهُم بِالصَّبرِ والتقوى، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾... نَدفَعُ حسَدَهُم وبَغْيَهُم بالرجوعِ إلى دينِنَا كما قال نبيُّنَا (صلى الله عليه وسلم): «حَتَّى تَرجِعُوا إلى دينِكُم»... نَدفَعُ حسَدَهُم وبَغْيَهُم باتِّباعِ النَّبِيِّ حقًّا؛ حِينَها يكونُ اللهُ معنَا، ومن كان اللهُ معهُ فلا غالبَ لَهُ!
الخطبةُ الثانية:
سمعَ أحدُ علماءِ السَّلَفِ رجلاً يقولُ: «الحمدُ للهِ على الإسلامِ! فقالَ لهُ: والسُّنَّة»... أي: قُلْ: الحمدُ للهِ على الإسلامِ والسُّنَّةِ، لأن هناكَ أقوامًا بَدَّلُوا السُّنَّة وفارقوا الجماعَة وهم أصحابُ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، هناكَ أقوامٌ ضلّوا السَّبِيل ومَرَقُوا من الدِّين واتبعُوا غير سبيل المؤمنين فسيُصليهم الله جهنّمَ!... قومٌ شَقُوا فعادَوا أصحابَ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وشتمُوهم ولعنوهم بل حكموا عليهم بالكفر والضلال والردة عن الإِيمان! قومٌ دينهم البراءة من أبي بكرٍ وعمر وقد جردوهما من حتَّى مِن نعمةِ الإسلام! عياذًا باللهِ من سوء منقلبِ هؤلاء! لقد انطوت صدورهم على الغِلِّ لأصحابِ رسولِ الله، وهاهم اليوم صاروا يهيجون علينا ويؤلبونَ ويتهددون ويتوعدون، ويعملون على إحداث الشغب والفوضى فيما بيننا، ووَاللهِ ما أنطقهم إلا الحسدُ لنَا على ما ننعمُ به في وطننا هذا مِن نِعمَة السُّنَّةِ، فحبُّ أبي بكر وعمر سُنَّةٌ، بل حُبُّ أبي بكرٍ وعمر فَرِيضةٌ، فنحنُ على الصراط المستقيم الذي ذكرَ الله في كتابه في فاتحة الكتاب على لسان المؤمنين: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم﴾، ﴿الصراط المستقيم﴾ الذي فسره بعض أئمة التفسير بأنه: «أبو بكر وعمر»! ونحنُ صادقونَ في الاِنتماء للإسلام والانتساب للرسول ومحبَّتِهِ، ودليلُ صدقنا: أننا مع أبي بكر وعمر كما أمرنا الله في قوله: ﴿اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾، وقد فسره بعض أئمة التفسير بقوله: «كُونُوا مع أبي بكرٍ وعُمر»! فمن لم يكن مع أبي بكر وعمر فليس هو على الصراط المستقيم بل هو ضال ومغضوبٌ عليهِ، ومن لم يكن مع أبي بكر وعمر فهو خائِنٌ غاشٌّ للنبيِّ وخائنٌ غاشٌّ للدِّين... نعم يحسُدوننا على السنة والجمَاعَة!... ما أشبه هؤلاء باليهود الذين كما قدمنا يحسدون النَّبِيَّ وأبا بكر وعمر، وهؤلاء بحسدِهِم لأبي بكرٍ وعمر إنَّما يحسُدون النَّبِيّ، وبمعاداتهم لأبي بكرٍ وعمر يُعَادُون النَّبِيّ، صحَّ في الأثر؛ عَنْ الإمام مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ (رحمه الله)، قَالَ: «مَا أَظُنُّ رَجُلًا يَنْتَقِصُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يُحِبُّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)» [3]، يعني: لا يُحِبُّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) مَن يَذُمُّ ويَشْتُمُ أبا بكرٍ وعمرَ (رضي الله عنهما)...
فكيفَ «تَسُبُّ أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتُبغِضهم وأنت تُحِبُّ الرسول!... فإذا كان أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) يسُبُّهم السَّابُّ المُفتَرِي الكَذَّاب؛ فإنه في الحقيقة قد سَبَّ الرسولَ (صلى الله عليه وسلم) ولم يَنصَح لَهُ!، بل هو في الحقيقة قَدَحَ في الشريعة؛ لأن حَمَلَةَ الشريعة إلينا هُم الصحابة، فإذا كانوا أهلاً للسّبّ والقَدْح لم يُوثَق بالشريعةِ؛ لأن نَقلَتَها أهل ذَمٍّ وقَدْحٍ، بل إن سبَّ الصحابة سَبٌّ لله (عز وجل) -نسأل الله العافية- وقَدْحٌ في حِكمتِه أن يختار لنبيِّه (صلى الله عليه وسلم) ولحَمْلِ دِينِهِ مَن هُم أهلٌ للذَّمِّ والقَدْح... إذن مِن النصيحة للرسول (صلى الله عليه وسلم) مَحَبَّةُ أصحابِهِ واحترامُهُم وتعظيمُهم، فهذا مِن الدِّين»[4]... فأما هؤلاء فما نصحُوا للهِ ولا نصحُوا لرسولهِ، ولا نصحُوا لكتابه، فالله تعالى أخبرنا في كتابه أنه رضيَ عن الصحابَةِ، وأمرنا في كتابه بالاستغفارِ لهم! وهؤلاء يقولون لنا: لن تؤمنوا حتى تتبرَّأُوا منهم!... ويتمسح هؤلاء ويدَّعُون كذبًا وزورًا أنهم أولياءُ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وكذبُوا، بل عليٌّ أول من يتبرَّأُ منهم ويلعنُهم، فقد وقف عليٌّ على منبر الكوفة وقال في الناس: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر...» ونقولها بملء الفم: والله العظيم لقد قال هذا علي وسمعه منه الناس وهو متواترٌ عنه ولا نشك فيه بل نحلفُ عليهِ، ولقد قال زيد بن علي بن الحسين –وهو من أهل البيت- يخاطبُ رجلاً: «اعلم واللهِ أَنَّ البراءةَ مِن أبي بكر وعمر هي البراءة مِن عليٍّ!» فالحمدُ لله الذي حفظ علينا ديننا والحمد لله الذي حفظ علينا عقولنا، الحمدُ للهِ على نعمة الإسلام ونعمة السُّنَّة، فنسأل الله تعالى أن يُمِيتَنا عليهِما كما أَحيَانَا عليهِما.... ونقولُ لمن يحسدوننا على السُّنَّة والجمَاعة: مُوتُوا بغيظِكُم!
[1] - «تفسير ابن الجوزي».
[2] - «صحيح الترغيب والترهيب».
[3] - «صحيح سنن الترمذي».
[4] - «شرح رياض الصالحين» لابن عثيمين.