أُلقِيَت يوم الجمعة 24 شعبان 1436هـ موافق لِـ: 12 جوان 2015م.
قالَ اللهُ تعالى في مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾.
هذا قَسَمٌ مِن اللهِ تعالى، أَقْسَمَ فيهِ بالعصرِ:
﴿وَالعَصْرِ﴾؛ قالَ بعضُ المفسرين: العصرُ هُنَا هُوَ: «اللَّيلُ والنَّهَارُ»، أقسمَ اللهُ تعالى بالليلِ والنهارِ، إذ فيهما عبرةٌ للمعتبرين وآياتٌ للمُتدبِّرين، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ﴾[الإسراء: 12]، وقال سبحانه: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾[النور: 44]. فتدبَّر في هذا الليل والنهار – يا عبدَ الله!-، وانظر في تعاقبهما، واعلم أنك في هذه الدنيا مسافرٌ، ومطيتك في سفرك هذا ومركوبك هو هذا الليلُ والنهار، فإنهما يحملانكَ، يحمل الليل ما شاء الله حتى يسلمك إلى النهار، ثم يحملك النهار ما شاء الله حتى يسلمك إلى الليل، وهكذا هما يتعاقبان على حملكَ، قال الحسن البصري (رحمه الله): «يُوضِعُكَ اللَّيلُ إلى النَّهَارِ، والنَّهارُ إلى اللَّيلِ، حتَّى يُسَلِّمَاكَ إلى الآخِرَةِ».
فَـ«اعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ -رَحِمَكُمْ اللَّهُ- فِي هَذَا اللَّيْلِ وَسَوَادِهِ، فَإِنَّ المَغْبُونَ مَنْ غُبِنَ خَيْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهُمَا، إنَّمَا جُعِلا سَبِيلاً لِلمُؤْمِنِينَ إلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَوَبَالاً عَلَى الآخَرِينَ لِلغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ».
وَأَقسمَ اللهُ تعالى – أيضًا- بالعصرِ: ﴿وَالعَصْرِ﴾؛ على معنًى آخرَ قالَهُ بعضُ المفسِّرِين: قالُوا العصرُ هُنَا: «هُوَ آخِرُ سَاعَةٍ مِن سَاعَاتِ النَّهَارِ»... «إِنَّهُ العَشِيُّ»، أقسمَ رَبُّكُم بآخِرِ النَّهَارِ، وخَصَّهُ بِالقَسَمِ لأَنَّهُ وقتُ انصرامِ انقضاءِ النَّهَارِ. فتدبَّر في هذا – يا عبدَ الله!- وتذكَّر بانقضاءِ يومِكَ انقضاءَ عُمرِكَ، وليُعْلَم أَنَّ العُمرَ أَيَّامٌ تَنقَضِي جُملَتُهَا بِانقِضَاءِ آحَادِهَا.
قال الحسنُ (رحمه الله): «يَا ابنَ آدم! إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، إِذَا مَضَى يَومُكَ مَضَى بَعضُكَ».
وقال ابن مسعود (رضي الله عنه): «مَا نَدِمْتُ على شَيءٍ نَدَمِي عَلَى يَومٍ غَرَبَت شَمسُهُ نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي ولَمْ يَزْدَدْ فِيهِ عَمَلِي».
وَقَالَ الحَسَنُ: «لَيْسَ يَوْمٌ يَأْتِي مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إلاَّ يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَإِنِّي عَلَى مَا يُعْمَلُ فِيَّ شَهِيدٌ، وَإِنِّي لَوْ قَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ إلَيْكُمْ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ».
أقسمَ رَبُّكُم بآخِرِ النَّهَارِ، وخَصَّهُ بِالقَسَمِ لأَنَّهُ وقتُ اختتام الأعمال، لأَنَّ فِيهِ خَوَاتِيمَ الأَعمَال. فتدبَّر في هذا – يا عبدَ الله!-، فالنَّاسُ يَتهَافَتُونَ على تِجَارَاتِهِم وينطَلِقُونَ من أَوَّلِ نهارهم يَشتغِلُونَ بِمَعايِشِهِم، وفي آخِرِ النَّهارِ وفي خاتمةِ الأعمالِ يَتَحَاسَبُونَ، يُحاسبُ الشريكُ شريكهُ، أو يحاسبُ السيد أجيرَهُ أو يُحاسبُ الرجلُ نفسَهُ، يكشِفُ عن حساباتِهِ، ويُحصي مداخيلَهُ ومحاصيلَهُ... فتدبَّر في هذا – يا عبد الله!- واعلم أنك في هذه الدنيا تاجرٌ وساعٍ، فعليكَ إذا انقضَى يومُك وجاءت خاتمةُ نهارِكَ أن تُحاسبَ نفسَكَ، ماذا فعلتَ وماذا قدمتَ وماذا اكتسبتَ، هل كنتَ رابِحًا غانما أم كنتَ منقوصًا غَارِمًا؟ فحاسِب نفسكَ كل يومٍ، وحاسِب نفسكَ كل خميسٍ إِذ الأعمالُ تُعرضُ على اللهِ عشيَّةَ كُلِّ جُمُعَةٍ.
أقسمَ اللهُ تعالى بالعصرِ، والَّذِي أَقْسَمَ عَلَيْهِ هُوَ: ﴿إِِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، ﴿إِِنَّ الإِنْسَانَ﴾ «هُوَ بِمَعنَى النَّاسِ على الصَّحِيح»، ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾؛ «أي: لَفِي غُبْنٍ».. «لَفِي نُقْصَانٍ»، وَأَصْلُ الغُبْنِ في البَيعِ والشِّرَاءِ، يُقَالُ غَبَنَهُ، أَي: نَقَصَهُ، وهُوَ مَغْبُونٌ أي: مَنقُوصٌ. شبَّهَ اللهُ تعالى النَّاسَ بالتُّجَّار، فالإنسانُ في هذه الحياةِ هُوَ تاجِرٌ، لكِن قالَ تعالى: ﴿إِِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، والمعنى: «أَنَّ النَّاسَ في خُسْرَانٍ مِن تِجَارَتِهِم»... «في خُسْرَانٍ فِي مَتَاجِرِهِم ومَسَاعِيهِم وصَرْفِ أَعْمَارِهِم فِي مَبَاغِيهِم وَفي مَطَالِبِهِم».
وهذا المعنى وردَ في قولهِ (صلى الله عليهِ وسلم): «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فبَائِعٌ نَفْسَهُ فمُعتِقُهَا أو مُوبِقُهَا»، وفي لفظٍ: «فبَائِعٌ نَفْسَهُ فمُعْتِقُهَا فبَائِعُهَا فمُوبِقُهَا»، فَكُلُّ أَحَدٍ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بَائِعٌ مُشْتَرٍ مُتَّجِرٌ، فَمَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بدُنْيَاهُ فهُوَ فِي غَايَةِ الخُسْرَانِ، بخِلافِ المُؤمِنِ، فإِنَّهُ اشتَرَى الآخِرَةَ بالدُّنيَا، فرَبِحَ وسَعِدَ.
«كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو»؛ يُبَكِّرُ سَاعِيًا في مَطَالِبِهِ، سَاعِيًا في تَحصِيلِ أَغرَاضِهِ، «فبَائِعٌ نَفْسَهُ» مِن رَبِّهِ يَبْذُلُهَا في رِضَاهُ «فمُعتِقُهَا» مِنَ العذابِ، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ﴾، «أَو» بَائِعٌ نَفسَهُ مِن الشَّيطَانِ فهُوَ «مُوبِقُهَا»، أي: مُهْلِكُهَا بسببِ مَا أَوْقَعَهَا فِيهِ مِنَ العَذَابِ... كُلُّ إِنسَانٍ يَسعَى بنَفسِهِ، فمِنهُم مَن يَبِيعُهَا للهِ بطَاعَتِهِ، فيُعتِقُهَا مِنَ العذابِ، ومِنهُم مَن يَبِيعُهَا لِلشَّيطانِ والهَوَى باتِّبَاعِهِمَا فيُوبِقُها، أي: يُهلِكُهَا... كُلُّ أَحدٍ يَسعَى ويَجتهِد في الدُّنيَا، ويَرَى أَثَرَ عَملِهِ في العُقبَى؛ فإِن عَمِلَ خَيرًا، فقَد بَاعَهَا وأَخذَ الخَيرَ عَن ثَمنِهَا، فمُعتِقُهَا مِن النَّارِ بذلِكَ، وهُناكَ من هو بائعٌ نفسَهُ فمُوبِقُهَا، أي: مُهلِكُهَا بأَن بَاعَهَا وأَخَذَ الشَّرَّ عَن ثَمنِهَا.
فعلى كُلٍّ مِنَ الحَالَتَينِ فالإِنسانُ بَائِعٌ بَائِعٌ، والذي يقعُ عليهِ البيعُ أو الشراءُ هو أغلى ما يملكُهُ الإنسانُ؛ نَفْسُهُ التي بَينَ جَنْبَيْهِ لا عوِضَ له عنها إن هو خسِرَها، فإنما له نفسٌ واحدةٌ.
قالَ الحسنُ (رحمه الله): «ابنَ آدمَ! إِنَّكَ تَغْدُو وتَرُوحُ فِي طَلَبِ الأَربَاحِ، فَلْيَكُنْ هَمُّكَ نَفْسَكَ، فإِنَّكَ لَنْ تَرْبَحَ مِثْلَهَا أَبَدًا».
فسَعْيُكَ إِذَن في هذهِ التِّجَارةِ إِمَّا تَرْبَحُ نَفْسَكَ وإِمَّا تَخْسَرُهَا... فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَإِيَّاكَ وَالغَبَنَ وَالتَّمَادِي فِي الكَسَلِ وَهَوَى النَّفْسِ، بَلْ اجْهَدْ فِي فِكَاكِهَا وَخَلاصِهَا مِنْ قُيُودِ الأَقْفَاصِ.
وَفي هذا المعنى – أيضًا- قولُهُ (صلى الله عليه وسلم): «نِعْمَتَانِ- أو غَنِيمَتَانِ- مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ»؛ شَبَّهَ الإِنسانَ بِالتَّاجِر والصِّحَّةَ والفَراغَ برَأسِ المَالِ؛ لكَوْنِهِمَا مِنْ أَسبَابِ الأرْبَاحِ ومُقَدِّمَاتِ النَّجَاحِ، فمَنْ عَامَلَ اللهَ بامتِثَالِ أَوَامِرِهِ رَبِحَ، ومَنْ عَامَلَ الشيطانَ باتِّبَاعِهِ ضَيَّعَ رَأْسَ مَالِهِ... «مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ»: فيَندَمُونَ على تَضيِيعِ أَعمارِهِم عِندَ زَوَالِهَا، ولاَ يَنفعُهُم النَّدَمُ، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾، فمَن حَصَلَ لهُ الأَمرَانِ – الصِّحَّةُ والفَرَاغُ- وكَسِلَ عَن الطَّاعَةِ، فهُوَ المَغْبُونُ، أَي: الخَاسِرُ في التِّجَارَةِ، قَدْ غُبِنَ كُلَّ الغَبْنِ في سُوقِ تِجَارَةِ الآخِرَةِ.
ولقد أجادَ الشاعرُ الحكيمُ حينَ قَالَ:
زِيَادَةُ المَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانُ/ ورِبْحُهُ غَيْرَ مَحْضِ الخَيْرِ خُسْرَانُ
الخطبةُ الثانيةُ:
قالَ الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، فإِنَّهُم فِي تِجَارَةٍ لَن تَبُور، حَيثُ بَاعُوا الفَانِي الخَسِيس، واشتَرَوا البَاقِي النَّفِيس، واستَبْدَلُوا البَاقِيَاتِ الصَّالِحَات بِالغَادِيَات الرَّائِحَاتِ، فيَا لَهَا مِن صَفْقَةٍ مَا أَرْبَحَهَا!.. ﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: وهَذَا بَيَانٌ لتَكمِيلِهِم لأَنفُسِهِم، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، بَيَانٌ لتَكمِيلِهِم لِغَيرِهِمْ..
﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، أي تحَاثُّوا وتَحَاضُّوا.. أَوصَى بَعضُهُم بَعضًا وحَثَّ بَعضُهُم بَعْضًا، وحَضَّ بَعضُهُم بَعْضًا ﴿بِالْحَقِّ﴾، باللهِ عَزَّ وجلَّ، ﴿تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، أي: بِالقرآن، ﴿تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، أي: بِالتَّوحِيدِ، ﴿تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، أي: أَوْصَى بَعضُهُم بَعْضًا بِلُزُومِ العَمَلِ بِطاعَةِ اللهِ واجْتِنَابِ مَعَاصِي اللهِ. ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، أي: بِالصَّبْرِ على طاعةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والصَّبرِ عَن مَعاصِيهِ.
عن محمّد بن كعبٍ القُرَظِيِّ (رحمه الله): ﴿وَالعَصْرِ﴾، قالَ: قَسَمٌ أَقسَمَ اللهُ بِهِ رَبُّنَا تبارك وتعالى، ﴿إِِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، قالَ: النَّاسُ كُلُّهُم، ثُمَّ اسْتَثْنَى فقَالَ: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾، ثُمَّ لَم يَدَعْهُم وذَلِكَ حَتَّى قَالَ: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، ثُمَّ لَم يَدَعْهُم وذَاكَ حَتَّى قَالَ: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، ثُمَّ لَم يَدَعْهُم وذَاكَ حَتَّى قَالَ: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾: شُرُوطًا، يَشتَرِطُهَا عَلَيهِمْ.