حَقُّ الزَّوْجَةِ
قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الروم: 21]. المَوَدَّةُ والرَّحْمَةُ: عَطْفُ قُلُوبِهِم بَعضِهِم على بَعْضٍ. وقال بعضُ المُفسِّرين: «المَوَدَّةُ: المَحَبَّةُ، والرَّحْمَةُ: الشَّفَقَة». «وقال ابنُ عباسٍ (رضي الله عنهما): المَوَدَّةُ: حُبُّ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، والرَّحْمَةُ: رَحْمَتُهُ إِيَّاهَا أَنْ يُصِيبَهَا بِسُوءٍ».
فالحياةُ الزوجيَّة مَبْنَاهَا على الأُلْفَة والمحبَّة والمَرْحَمَة. فَاعْرِف هذا أَيُّهَا الزَّوْجُ! واحْرِصْ على أَن تَكُونَ حَيَاتُكُمَا مَلِيئةً بهَذَا ا لَّذِي ذَكَرَ اللهُ في كِتَابِهِ.
وقال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، «أي: عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِنْ حُسْنِ المُعَاشَرَةِ»[«تفسير القرطبي»].
«وهَذَا يَشمَلُ المُعاشَرَةَ القَولِيَّة والفِعْلِيَّة، فعَلَى الزَّوجِ أَن يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالمَعرُوفِ، مِن الصُّحْبَةِ الجَمِيلَة، وكَفِّ الأَذَى وبَذْلِ الإِحْسَان، وحُسْنِ المُعَامَلَة، ويَدخُلُ في ذَلِكَ النَّفَقَةُ والكِسْوَةُ ونَحوُهُمَا»[«تفسير السعدي»]. وهُوَ مِثْلُ قَولِهِ تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾: «وذلك بِأَن يُوفِّيهَا حَقَّهَا مِن المَهْرِ والنَّفَقَةِ، وأَلاَّ يَعْبَسَ فِي وَجْهِهَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وأَن يَكُونَ مُنْطَلِقًا فِي القَوْلِ، لاَ فَظًّا ولاَ غَلِيظًا. فأَمَرَ اللهُ سبحانه بِحُسْنِ صُحْبَةِ النِّسَاءِ، فإِنَّهُ أَهْدَأُ لِلنَّفْسِ وأَهْنَأُ لِلْعَيْشِ. وهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ. وكما عليها أن تُحسِنَ عِشْرَتَهُ عَلَيهِ هُوَ أيضًا أن يُحْسِنَ عِشْرَتَهَا، وَكَمَا عَلَيْهَا حَقٌّ لَهُ، لَهَا حَقٌّ عَلَيْهِ، كما قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[البقرة:228]، فعَلَى الزَّوجِ أَن يُخَاطِبَهَا بِالمَعرُوف، وأَن يَكُونَ طَيِّبَ الكَلاَمِ، حَسَنَ البِشْرِ، لاَ فظًّا ولا غليظًا، ولا عَنِيفًا، ولاَ خَبِيثَ الكلامِ واللَّعْنِ، ولكِن يكونُ طَيِّبَ الكلامِ، طَيِّبَ البِشْرِ، طَيِّبَ المُلاَقَاةِ، حَسَنَ الخُلُقِ مَعَ أَهْلِهِ»[من فوائد الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله)].
وقال بعضُ المُفَسِّرِين في قوله تعالى﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾: «هُوَ أَنْ يَتَصَنَّعَ لهَا كَمَا تَتَصَنَّعُ لَهُ». «وقال ابن عباسٍ (رضي الله عنهما): إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لامْرَأَتِي كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ المَرْأَةُ لِي».
وللمرأة حقٌّ في الجِمَاعِ، لا يجوزُ للزوجِ أن يَمنَعَهَا حقَّهَا فيهِ وإلاَّ كان ظَالِمًا. وقد ذكر هذا الفقهاء في «الإِمساكِ بالمعروف» وهو أَن يُوَفِّيهَا حَقَّهَا فِي الجِمَاعِ، فلها حقٌّ فِيهِ كما للزَّوجِ حَقٌّ فِيهَا، وكما أَنَّ الرَّجُلَ يَقضِي شَهْوَتَهُ مِن امرأتِهِ بِالحَلاَلِ فهِيَ كَذَلِكَ تَقْضِي شَهوَتَهَا وتَستَمْتِعُ مِن زَوجِهَا بِالحَلاَلِ، وكما يَقْصِدُ هُوَ بِجِمَاعِ الحَلِيلَةِ العِفَّةَ عَن الحَرَام تَقْصِدُ هِيَ كذلِك العِفَّةَ عَن الزِّنَا بِالحَلِيل. وكما أَنَّهُمَا يَشتَرِكَانِ فِي حَقِّ الجِمَاعِ يَشْتَرِكَانِ أيضًا في الجِمَاعِ الكَامِل مِنْ غَيْرِ عَزْلٍ، لأنَّ العَزْلَ – وهُوَ إِنْزَالُ الرجل ماءَهُ خَارِجًا- يُفَوِّتُ عَلَيهَا تَمَامَ لَذَّتِهَا واستمتاعِهَا، ومِن هُنا كَرِهَ جماعةٌ مِن العلماء أن يَعْزِلَ الرَّجُلُ عَن امرَأَتِهِ إلاَّ إِذَا رَضِيَت وتَنَازَلَت عَنْ حَقِّهَا. وكذلِكَ العَزْلُ يُفَوِّتُ عَلَيْهَا حقَّهَا في الوَلَدِ، فكما يَشتَهِي الرجلُ أن يكونَ لهُ الولَدُ تَشتَهِي المرأةُ ذَلِكَ.
قال الحافظ ابنُ كثيرٍ (رحمه الله): «وقَولُهُ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي: طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا، فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ، كما قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[البقرة:228] وقال رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وأَنَا خَيْرُكُم لأهْلي»[«صحيح الجامع» (3314)]. وكان مِن أَخلاَقِهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ جَمِيل العِشْرَة دَائِمُ البِشْرِ، يُدَاعِبُ أَهْلَهُ، ويَتَلَطَّفُ بِهِمْ، ويُوَسِّعُهُم نَفَقَتَهُ، ويُضَاحِكُ نِسَاءَهُ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عائشةَ أُمَّ المُؤمنين يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ. قالت: سَابَقَنِي رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) فَسَبَقْتُهُ، وذلكَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ اللَّحْمَ، ثُمَّ سَابَقْتُهُ بَعْدَ مَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ فَسََبَقَنِي، فقالَ: «هَذِهِ بتِلْكَ»[«الصحيحة» (131)]... وكَانَ إِذَا صَلىَّ العِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ مَعَ أَهْلِهِ قَلِيلاً قَبلَ أَن يَنَامَ، يُؤَانِسُهُمْ بِذَلِكَ (صلى الله عليه وسلم). وقَد قالَ اللهُ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب: 21]».
ـ وقال تعالى: ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾، «أَدَّبَ تعالى عِبَادَهُ بِهَذَا. والمعنى: أَنَّهُ لاَ تَحْمِلُكُمْ الكَرَاهَةُ على سُوءِ المُعَاشَرَةِ! فإِنَّ كَرَاهَةَ الأَنفُسِ للشَّيءِ لاَ تَدُلُّ على انْتِفَاءِ الخَيْرِ مِنْهُ، كما قالَ تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ. ولَعَلَّ مَا كَرِهَت النَّفْسُ يَكُونُ أَصْلَحَ في الدِّينِ وأَحْمَدَ فِي العَاقِبَةِ، ومَا أَحَبَّتْهُ يَكُونُ بِضِدِّ ذَلِكَ»[«تفسير البحر المحيط» لأبي حيان].
فهذه وصيةُ اللهِ أَيُّهَا الزَّوج! واختِيَارُهُ لَكَ: إِنْ كَرِهْتَ امرأَتَكَ فلاَ تُفَارِقْهَا ولا تُسَارِعْ إلى طَلاَقِهَا، ولاَ تَعْمَدْ إلى إِسَاءَةِ عِشْرَتِهَا فَالخَيْرُ فِيمَا أَرْشَدَكَ اللهُ إِلَيْهِ وهُوَ أَنْ تُبْقِيهَا وتُمْسِكَهَا عِنْدَكَ وأَنْ تُعَاشِرَهَا بالمَعرُوفِ وتُحْسِنَ مُعَامَلَتَهَا وتَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا، فعَسَى تَنْقَلِب تِلْكَ الكَرَاهِيَّة في نَفْسِكَ مَحَبَّةً ووِدَادًا، وعَسَى يَأْتِيكَ مِن هذِهِ المَرأةِ خَيْرٌ كَثِيرٌ. قال العلامة السَّعديّ (رحمه الله) في تفسير الآية المذكورة: «أي: ينبغي لكم -أيها الأزواج!- أن تُمْسِكُوا زوجاتِكُم مع الكَرَاهَةِ لَهُنَّ، فإِنَّ في ذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا. مِن ذَلِكَ: امْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ، وقَبُولُ وَصِيَّتِهِ الَّتِي فِيهَا سعادةُ الدُّنيا والآخرة. ومِنها: أَنَّ إِجْبَارَهُ نَفْسَهُ -مع عدمِ مَحَبَّتِهِ لها- فِيهِ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ، والتَّخَلُّقُ بِالأَخلاقِ الجَمِيلَةِ. ورُبَّمَا أَنَّ الكَراهَةَ تَزُولُ وتَخْلُفُهَا المَحَبَّةُ، كَمَا هُوَ الوَاقِعُ فِي ذَلِكَ. ورُبَّمَا رُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا صَالِحًا نَفَعَ وَالِدَيْهِ في الدُّنيَا والآخِرَةِ»[«تفسير السعدي»]. وهَذَا أَهْدَأُ لِلنَّفْسِ وأَهْنَأُ لِلْعَيْشِ.
ومِن هذا المعنى: ما وَرَدَ في «صحيحِ مُسلمٍ» عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): «لاَ يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»، أو قالَ: «رَضِيَ مِنْهَا غَيْرَهُ»[مسلمٌ (1469)]. «والمعنى: لاَ يُبْغِضُهَا بُغْضًا كُلِّيًا يَحْمِلُهُ عَلَى فِرَاقِهَا. أي: لاَ يَنبَغِي لَهُ ذَلِكَ، بَلْ يَغْفِرُ سَيِّئَتَهَا لِحَسَنَتِهَا ويَتَغَاضَى عَمَّا يَكْرَهُ لِمَا يُحِبُّ». قالَ ابن عمر (رضي الله عنهما): «إِنَّ الرَّجُلَ ليَسْتَخِيرُ اللهَ تَعَالَى فيُخَارُ لَهُ، فيَسْخَطُ عَلَى رَبِّهِ (عَزَّ وجَلَّ)، فَلاَ يَلْبَثُ أَنْ يَنْظُرَ فِي العَاقِبَةِ، فإِذَا هُوَ قَدْ خِيرَ لَهُ».
ـ عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وإِنَّ أَعْوجَ شيءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، قالَ: فإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَج، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»[البخاري (3331) ومسلمٌ (1468)]، وفي روايةٍ: «إِنَّ المَرأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فإِن اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وكَسْرُهَا طَلاَقُهَا»[مسلمٌ (1468)].
«فهذه المرأةُ إِن استَمْتَعَ بِهَا الإِنسانُ اسْتَمْتَعَ بِهَا عَلَى عِوَجٍ فيَرْضَى بِمَا تَيَسَّرَ، وإِنْ أَرَادَ أَن تَسْتَقِيمَ فَإِنَّهَا لَنْ تَسْتَقِيمَ، ولَن يَتَمَكَّنَ مِن ذَلِكَ، فهِي وإِن استَقَامَتْ فِي دِينِهَا فلَنْ تَسْتَقِيمَ فِيمَا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَتُهَا، ولاَ تَكُونُ لزَوْجِهَا على مَا يُرِيدُ في كُلِّ شيءٍ، بَل لاَ بُدَّ مِن مُخَالَفَةٍ، ولاَ بُدَّ مِن تَقصِيرٍ مَعَ القُصُورِ الَّذِي فِيهَا، فهِيَ قَاصِرَةٌ بمُقتَضَى جِبِلَّتِهَا وطَبِيعَتِهَا، ومُقَصِّرَةٌ أَيضًا، فإِن ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وكَسْرُهَا طَلاَقُهَا، يعني: معنى ذلِك أَنَّكَ إِن حَاوَلْتَ أَن تَسْتَقِيمَ لَكَ على مَا تُرِيدُ، فلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ وحِينئِذٍ تَسْأَمُ مِنْهَا وتُطَلِّقُهَا. وفي هذا تَوجِيهٌ مِن رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إلى مُعَاشَرَةِ الإِنسانِ لأَهلِهِ وأَنَّهُ يَنبَغِي أَن يَأخُذَ مِنهُمْ العَفْوَ ومَا تَيَسَّرَ كما قال تعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ﴾، يعني: مَا عُفِيَ وسَهُلَ مِنْ أَخْلاَقِ النَّاسِ. ولاَ يُمْكِنُ أَن تَجِدَ امرأةً مَهْمَا كَانَ الأَمْرُ سَالِمَةً مِنَ العَيْبِ مِائةً بِالمائةِ أو مُوَاتِيَةً للزَّوْجِ مِائةً بِالمائة، ولَكِن كَمَا أَرشَدَ النَّبِيُّ (عليه الصلاة والسلام): اسْتَمْتِعْ بِهَا على مَا فِيهَا مِنَ العِوَجِ. وأيضًا: إِنْ كَرِهْتَ مِنهَا خُلُقًا رَضِيتَ مِنهَا خُلُقًا آخَرَ، فقَابِلْ هَذَا بِهَذَا مَعَ الصَّبْرِ، وقد قال اللهُ تعالى: ﴿فإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَل اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.. يُوَازِنُ بَينَ السَّيِّئَاتِ والحَسَنَات ويَنظُر أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وأَيُّهُمَا أَعْظَمُ وَقْعًا، فيُغَلِّبُ مَا كَانَ أَكثَرَ ومَا كانَ أَشَدَّ تَأثِيرًا.. إِذَا أَسَاءَت مَثَلاً في رَدِّهَا عَلَيكَ مَرَّةً لَكِنَّها أَحْسَنَتْ إِلَيْكَ مَرَّاتٍ، أَسَاءَت ليلةً لَكِنَّهَا أَحْسَنَتْ لَيَالِيَ.. وهكذا فأَنتَ إِذَا أَسَاءَت إِلَيكَ زَوجتُكَ لاَ تَنظُرْ إلى الإِسَاءَةِ في الوَقتِ الحَاضِرِ، ولكِن انظُرْ إلى المَاضِي وانْظُر لِلمُستَقبَلِ[من فوائد الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله)]. وهَذِهِ المُعَامَلَةُ أَهْدَأُ لِلنَّفْسِ وأَهْنَأُ لِلْعَيْشِ.
* عن مُعاوية بن حَيْدَة (رضي الله عنه) قال: قلتُ: يا رسولَ الله! مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قالَ: «تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ، وتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، ولاَ تَضْرِبْ الوَجْهَ، ولاَ تُقَبِّحْ، ولاَ تَهْجُرْ إِلاَّ فِي البَيْتِ»[«صحيح الترغيب والترهيب» (1929)].
ـ دَلَّ الحديثُ على وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوجَةِ وكِسْوَتِهَا، وأَنَّ النَّفقَةَ بقَدْرِ سَعَتِهِ، لاَ يُكَلَّفُ فَوْقَ وُسْعِهِ، قالَ (صلى الله عليه وسلم): «حَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وطَعَامِهِنَّ»«صحيح الجامع» (7880)].
ولكن قد قال (صلى الله عليه وسلم): «كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ»«صحيح الجامع» (4481)]. فعلى الزوج القادِر السعيُ على عياله من زوجة وأولاد لئلا يضيعهم وهُوَ آثِمٌ إذا ترك التَّسَبُّبِ في طَلَبِ الرِّزْقِ لَهُم مَعَ قُدْرَتِهِ..
ـ وفي الحديث: دليلٌ على جَوَازِ الضَّرْبِ تَأْدِيبًا، وهذا إذا لم تنفع الموعظة باللسان أولا ثم الهجران ثانيًا، قال تعالى: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾[النساء: 34]، ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾: «هُوَ ضَرْبُ الأَدَبِ غَيْرُ المُبَرِّحِ». «قال الحسن البصريّ: يَعْنِي غَيْرُ مُؤَثِّرٍ». «قال عطاء: قلتُ لابن عباسٍ: مَا الضَّرْبُ غَيْرُ المُبَرِّحِ؟ قال: بِالسِّوَاكِ ونَحْوِهِ». قال الفقهاءُ: هُوَ أَلاَّ يَكْسِرَ فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئًا. فإن المقصود منه الصلاح لا غير.
لكن الأفضلُ تركُ الضربِ وعدمُ استعمالهِ إلاَّ إذا لم يكن منهُ بُدٌّ، ولك – أيها الزوجُ!- أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ برسول اللهِ (صلى الله عليه وسلم)؛ فإنه لم يضرب بيده قط امرأةً من نسائه![مسلمٌ (23279)] وقالَ: «لاَ تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللهِ!». فجاء عُمَرُ (رضي الله عنه) إلى رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فقال: ذَئِرْنَ النساءُ – أي: تَجَرَّأْنَ- على أَزْوَاجِهِنَّ![وَسَاءَتْ أَخْلَاقُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مُنْذُ نَهَيْتَ عَنْ ضَرْبِهِنَّ] فَرَخَّصَ في ضَرْبِهِنَّ[فقال: «فَاضْرِبُوا»]. فأَطَافَ بآلِ رسولِ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)[تِلْكَ اللَّيلَة] نِسَاءٌ كثير، يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ![يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ] فقالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ، يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ؛ لَيْسَ أُولَئِكَ بخِيَارِكُمْ»[«صحيح أبي داود» (1863) و«التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان» (4177)].
«لَيْسَ أُولَئِكَ»، «أي: الرِّجَال الَّذِين يَضرِبُونَ نِساءَهُم ضَرْبًا مُبْرِحًا أو يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ مُطلَقًا «بِخِيَارِكُم»، أي: بَلْ خِيَارُكُم مَن لاَ يَضْرِبُهُنَّ ويتَحَمَّلُ عَنْهُنَّ أو يُؤَدِّبُهُنَّ ولاَ يَضْرِبُهُنَّ ضَرْبًا شَدِيدًا يُؤَدِّي إلى شِكَايَتِهِنَّ. حيثُ لَمَّا بَالَغُوا في الضَّرْبِ أَخبَرَ أَنَّ الضَّربَ وإِن كانَ مُبَاحًا على شَكَاسَةِ أَخلاَقِهِنَّ فَالتَّحَمُّلُ والصَّبْرُ على سُوءِ أَخلاَقِهِنَّ وتَرْكُ الضَّرْبِ أَفضَلُ وأَجْمَلُ». «لَيْسَ أُولَئِكَ بخِيَارِكُمْ»، «أي: لَيْسُوا بِخِيَارِ الرِّجَالِ»[من فوائد الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله)].
ـ وفي الحديثِ النَّهيُ عن ضَربِ الزوجة في وَجْهِهَا؛ لأَنَّ الوَجْهَ أَشْرَفُ مَا في الإِنسانِ، وهُوَ وَاجِهَةُ البَدَنِ كُلِّهِ، فإِذَا ضُرِبَ كان أَذَلَّ للإِنسَانِ مِمَّا لَو ضَرَبَ غَيرَ وَجهِهِ، يعني: يَضْرِب الرجل ظَهْرَهُ، فَلاَ يَرَى بذَلِكَ أَنَّهُ اسْتُذِلَّ، كَمَا لَو ضَرَبْتَهُ على وَجْهِهِ، ولهذا نُهِيَ عن ضَربِ الوَجهِ. فضَرْبُكَ لامرأتك لا يجوز أن يكو ن في الوجهِ، لأنه ضربٌ لأجل التأديبِ عندَ الحاجَةِ، وليسَ لأجلِ الإهانةِ أو الإذلال.
ـ وفي الحديث النَّهْيُ عَن التَّقبِيح، فِي قَولِهِ: «لاَ تُقَبِّحْ»، أي: لا تُسْمِعْهَا مَا تَكْرَهُ، وتقولُ: قَبَّحَكِ اللهُ ونحوُهُ مِن الكلامِ الجَافِي، لاَ يَشتِمُهَا ولاَ يَلْعَنُهَا. ويَشمَلُ النَّهيُ عن التَّقبِيحِ النَّهْيَ عَن التَّقبِيحِ الحِسِّيِّ والمَعنوِيِّ، فلاَ يُقَبِّحُهَا مثل أن يقول: أَنتِ مِن عائلةٍ سَيِّئَةٍ أو غيرِ ذلك، كلُّ هذا مِن التَّقبِيحِ الَّذي نَهَى رسولُ اللهِ عَنهُ.
ـ وفي الحديث: «لاَ تَهْجُرْ إِلاَّ فِي البَيْتِ»، يعني: إِذَا وُجِدَ سَبَبُ الهَجْرِ، فلاَ تَهْجُرْهَا عَلَنًا وتُظْهِر لِلنَّاسِ أَنَّكَ هَجَرْتَهَا.. اهْجُرْهَا في البَيْتِ؛ لأَنَّهُ رُبَّمَا تَهْجُرُهَا اليَوم وتَتَصَالَح مَعَهَا في الغَدِ، فتَكُونُ حَالُكُمَا مَستُورَةً، لكِن إذا ظَهَرَت حَالُكُما لِلنَّاسِ بأَنْ قُمْتَ بنَشْرِ ذَلِكَ والتَّحدِيثِ بِهِ كانَ هَذَا خَطَأً.. اهْجُرْهَا في البَيْتِ ولاَ يَطَّلِعْ على هَجْرِكَ أَحَدٌ حَتَّى إذا اصْطَلَحْتَ مَعَهَا رَجَعَ كُلُّ شيءٍ عَلى مَا يُرَامُ دُونَ أَن يَطَّلِعَ عَلَيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ[من فوائد الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله)].
وأخيرًا... قال النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»[«صحيح الجامع» (3314)]، فخَيْرُ النَّاسِ هُوَ خَيْرُهُمْ لأَهْلِهِ؛ لأَنَّ الأَقرَبِينَ أَوْلَى بِالمَعرُوفِ، فإِذَا كَانَ فِيكَ خَيرٌ فَلْيَكُنْ أَهْلُكَ هُمْ أَوَّلُ المُستَفِيدِينَ مِن هَذَا الخَيْرِ، وهَذَا عَكْسُ مَا يَفْعَلُهُ بَعضُ النَّاسِ اليَومَ، تَجِدُهُ سَيِّئَ الخُلُقِ مَعَ أَهْلِهِ حَسَنَ الخُلُقِ مَعَ غَيرِهِمْ، وهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، أَهْلُكَ أَحَقُّ بإِحسَانِ الخُلُقِ... أَحْسِنْ الخُلُقَ مَعَهُمْ؛ لأَنَّهُم هُمُ الَّذِينَ مَعَكَ لَيلاً ونَهَارًا سِرًّا وعَلاَنِيَّةً، إِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ أُصِيبُوا مَعَكَ وإِنْ سُرِرْتَ سُرُّوا مَعَكَ وإِنْ حَزِنْتَ حَزِنُوا مَعَكَ، فَلْتَكُن مُعَامَلَتُكَ مَعَهُم خَيْرًا مِن مُعَامَلَتِكَ مَعَ الأَجَانِبِ فخَيرُ النَّاسِ خَيْرُهُمْ لأَهْلِهِ. نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُكْمِلَ لِي ولِلمُسلِمِينَ الإِيمَانَ، وأَن يَجْعَلَنَا خَيْرَ عِبادِ اللهِ فِي أَهْلِينَا ومَنْ لَهُمْ حَقٌّ عَلَيْنَا[من فوائد الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله)].