تَأَمَّلْ! مَنْ تُصَاحِبْ!
صَحَّ عَن رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)- مِن حَديثِ أبي موسى الأشعريِّ (رضي الله عنه)- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وجَلِيسِ السُّوءِ كحَامِلِ المِسْكِ ونَافِخِ الكِيرِ – وفي لفظٍ: «كمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وكِيرِ الحَدَّادِ» -، فحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وإِمَّا أَن تَبْتَاعَ مِنهُ وإِمَّا أَن تَجِدَ مِنهُ رِيحًا طَيِّبَةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيَابَكَ وإِمَّا أَن تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً»[البخاري (2101) ومسلم (2628)].
وفي روايةٍ: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ كمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ إِن لَم يُصِبْكَ مِنهُ شَيءٌ أَصَابَكَ مِن رِيحِهِ ومَثَلُ جَلِيسِ السُّوءِ كمَثَلِ صَاحِبِ الكِيرِ إِنْ لَمْ يُصِبْكَ مِن سَوَادِهِ أَصَابَكَ مِن دُخَانِهِ»[«صحيح الجامع» (5839)].
وفي روايةٍ: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ مَثَلُ العَطَّارِ إِنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْهُ أَصَابَكَ رِيحُهُ – وفي لفظٍ: «إِنْ لَم يُعْطِكَ مِن عِطْرِهِ أَصَابَكَ مِن رِيحِهِ»[«صحيح الجامع» (5828)]-، ومَثَلُ الجَلِيسِ السُّوءِ مَثَلُ القَيِّنِ إِن لَم يَحْرِقْكَ بِشَرَرِهِ عَلِقَ بِكَ مِنْ رِيحِهِ»[«التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان» (578)].
* اشتمل هذا الحديثُ على الحَثِّ على اختِيَارِ الأَصحابِ الصَّالِحِين ، والتَّحذِيرِ مِن ضِدِّهِم. ومَثَّلَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) بهَذَين المِثَالَين، مُبَيِّنًا أنَّ الجليسَ الصَّالِحِ: جَميعُ أَحوالِكَ مَعَهُ وأَنْتَ في مَغْنَمٍ وخَيرٍ، لَن تَعْدِمَ مِنهُ خَيرًا ولَن تَفْقِدَ مِنهُ نَفْعًا وفَائِدَةً، مَثَلُهُ مَثَلُ حَامِلِ المِسْكِ أو العطَّار الذي بضاعتُهُ المِسْكُ وما أشبَهَ من كلِّ ذي رائحةٍ طيبةٍ، هذا العطَّارُ الذي تنتفع بما معهُ من المسك: إِمَّا بهِبَةٍ مجَّانيَّةٍ (هدِيَّةٍ)، أو بطريقِ الشراء مِنهُ. فإن لم يكن هذا ولا ذاكَ، لم تعدِم أن تَشُمَّ مِنهُ – ولا بُدّ-: مُدَّةَ جُلُوسِكَ مَعَهُ رائحة المسك الطيّبة، وتجد لذلك أثرًا طَيِّبًا في نفسِيَّتِكَ، تَكُونُ قَرِيرَ النَّفسِ برائحةِ المِسك، ويَحْصُل َلك انشراحُ صَدْرٍ ويَدخُلُ على قَلْبِكَ سُرُورٌ وفرحةٌ.
هذا مَثَلُ الجليس الصَّالِح، والصَّالِح هو مَن يَدُلُّكَ على اللهِ وعلى مَا يُقَرِّبُ إلى اللهِ مِن قَولٍ أو عَمَلٍ.
فإِنَّهُ لَن تَفْقِدَ مِنهُ وَاحِدَةً مِن أُمُورٍ: تأخذُ مِنهُ خَيرًا؛ إِمَّا أن يُعَلِّمَكَ – بطَلَبٍ منك على سبيل الاستفادَة والتعلم- مَا يَنفَعُكَ في دِينِكَ ودُنيَاكَ، فتَتَعَلَّمُ منهُ العِلمَ، أو يَمْنَحَكَ حِكْمَةً، أو يُهْدِي لَكَ نَصِيحَةً، أو يُحَذِّرَكَ مِن فْعِلِ مَا يَضُرُّكَ. فيحُثُّكَ على طاعةِ اللهِ وبِرِّ الوالِدين، وصِلَةِ الأرحام، فتتلقَّى عنهُ أعمالَ البِرِّ، أو يُبَصِّرُكَ بعُيُوبِ نَفْسِكَ، فيكونُ مِرآةً لكَ، أو يَدْعُوكَ إلى مَكَارِمِ الأَخلَاقِ ومَحَاسِنِهَا بقَولِهِ وفِعْلِهِ وحَالِهِ، بما ترَى مِنْ حُسْنِ حَدِيثِهِ وخُلُقِهِ وآدَابِ شَمَائِلِهِ، فلا تملِك إلاَّ أن تَذكُرَ اللهَ عند رُؤيتهِ وتصغُر في عينِكَ الدُّنيا وتزداد رغبةً في الآخِرة. تصديقًا لقولِ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم): «خِيَارُ عبادِ الله الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ»[«صحيح الترغيب» (2824)]. أو تَجِدْ مِن مُجَالَسَتِهِ رَوْحًا وطِيبًا، أي: انشراحَ صَدْرٍ وطِيبَ نَفْسٍ وخِفَّةً ونَشَاطًا ورَغبَةً في عَمَلِ الخير وسُهُولةَ انقِيَادٍ إلى فعلِ الخير، كلُّ هذا ببركة مجالسةِ الأخيار والصالحين، فمجالِسُهُم بَرَكَةٌ. وأَقَلُّ ما تَستَفِيدُهُ مِن الجَلِيسِ الصَّالِحِ - وهِيَ فائدةٌ لَا يُسْتَهَانُ بِهَا - أن تَْنكَفَّ بسَبَبِهِ عن السَّيِّئَاتِ والمَعاصِي، فالزمن والمدة التي تَكُونُ فِيهَا مَعَهُ لاَ تَعْصِي اللهَ فيها ولا تَسْتَمِعُ إلى إِثْمٍ ولا تشتغِل بباطلٍ أو لغوٍ، وربما بقي تأثير ذلك حتى بعد مفارقته بزمانٍ، لا تَقرَبُ من الشرّ أو الباطِل، فأيُّ بركةٍ هذهِ! فاحرص – يا عبد الله- على القُرْبِ من الصالحين.
* وقد أوصى الله تعالى نَبِيَّهُ محمدًا (صلى الله عليه وسلم) بَلْ أَمَرَهُ بأَن يُلازِمَ الصَّالحين، فقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾الآية [الكهف: 28].
* وجاء في القُرآن ذِكْرُ قُدوَةٍ مِن أَعظم القُدوات وهُم الأنبياءُ والرُّسُل، فهذا نبيُّ اللهِ مُوسَى الكَلِيمُ (عليه السَّلام) حَرِصَ على مُصَاحَبَةِ الخِضْرِ حَتَّى يَستَفِيدَ مِنهُ عِلْمًا، فَالخِضْرُ رَجُلٌ عَالِمٌ عِندَهُ مِن العِلم ما لم يكن عند مُوسَى، فأَحَبَّ (عليه السَّلام) أَن لا يُفَوِّتَ على نَفْسِهِ الخَيْرَ الَّذِي عِندَهُ، فَالْتَمَسَ مِنْهُ أَن يُصَاحِبَهُ: ﴿قَالَ: لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ – أي: هَلْ أَصْحَبُكَ وأُرَافِقُكَ- ﴿عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾[الكهف: 66].
* وهذا نَبِيُّنَا مُحمّدٌ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ يَتَصَدَّقُ كَثِيرًا، فإِذَا جاءَ رمضانُ المبارك وجَاءَت الصُّحْبَةُ المُبَارَكَةُ وحَصَلَ لَهُ لِقَاءُ جِبرِيلَ (عليه السَّلام) يَعْرِضُ عليهِ القُرآن، زَادَتْهُ صُحْبَتُهُ خَيرًا؛ فَازْدَادَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) مِن الخَيْرِ وزَادَ جُودُهُ وزَادَتْ صَدَقَاتُهُ، «فَلَرَسُولُ اللهِ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»[البخاري (6) ومسلم (2308)].
* ومَثَلُ الجليسِ السُّوء وهُو الإِنسان السَّيّء بضِدِّ الصَّالِح، مَثَلُ الحَدَّاد نَافِخِ الكِيرِ الَّذِي يَنفُخُ في النار ويُشْعِلُهَا ليَصْهَرَ الحديد أو يُلَيِّنَهُ، فهذا يُؤذِيك القُربُ مِنهُ وتَضُرُّكَ مُجالَسَتُهُ، ولَن تَعْدِمَ مِنهُ واحدةً مِن الأُمُور وكُلُّهَا مَكرُوهةٌ: إِمَّا أَن يَتَطَايَرَ شَرَرُ نَارِهِ، فتُصِيبُكَ أَجزاءٌ مِن نَارِهِ فتُؤذِيك وتُحْرِقُك في جِلدك أو تَحْرِق ثَوبكَ، فيُتْلِفُ عَلَيكَ مالَكَ، وإِمَّا أَن يَتَطَايَرَ رَمَادُ نَارِهِ فيتَلَطَّخُ وَجهُكَ أو تَتَلَطَّخُ ثِيابُك فيُفسِدُهَا عَلَيكَ، وإِمَّا يُؤذِيكَ دُخَانُهُ، فيَضِيقُ نَفَسُكَ ويُصِيبُك الاِختِنَاق وأَقَلُّ شيءٍ يُصِيبُكَ مِنهُ أَنَّكَ تَجِدُ نَفْسَكَ عِندهُ وبالقُربِ مِنهُ في حالةٍ مَكروهةٍ مِن الضِّيق والتَّبَرُّم والقَلَق والاِنزِعاج فيَجْلِبُ على نَفْسِكَ وصَدْرِكَ كَرْبًا وضِيقًا. فهذا بلا شكٍّ لا يَحرِصُ أحدٌ على مُجَاوَرَتِهِ فضلاً عن القُربِ مِنهُ والجلوس إليه. وهذا مَثَلُ الإنسان السَّيّء والفاجِر والفاسق والمطعون عليه في دينه وأخلاقه وسلوكاته، فمُجالسته كُلُّهَا شُؤْمٌ ولاَ بُدّ أن يَضُرَّكَ وأن تَلْقَى مِنهُ ما تَكرَهُ.
قال عليٌّ (رضي الله عنه): «لَا تَصْحَب الفَاجِرَ؛ فإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ ويَوَدُّ أَنَّكَ مِثْلُهُ».
ويُقَالَ: «وإِيَّاكَ ومُجَالَسَةَ الأَشْرَارِ؛ فإِنَّ طَبْعَكَ يَسْرِقُ مِنْهُم وأَنْتَ لاَ تَدْرِي».
فَمُصاحَبَةُ الأَشرَارِ وأهل السُّوءِ: هيَ مَضَرَّةٌ مِن جميعِ الوُجُوهِ، وهُم ضَرَرٌ على مَن صَاحَبَهُمْ، وشَرٌّ عَلى مَنْ خَالَطَهُم، فكَمْ هَلَكَ بسَبَبِهِم أَقوَامٌ، وكَمْ قَادُوا أَصحابَهُم إلى المَهَالِكِ مِن حَيْثُ يَشعُرُونَ، ومِن حَيْثُ لاَ يَشعُرُونَ. ولهذا كانَ مِن أَعظمِ نِعَمِ اللهِ على العبدِ المُؤمنِ: أَن يُوَفِّقَهُ لصُحبَةِ الأَخْيَارِ، ومِن عُقُوبَتِهِ لعَبدِهِ: أَن يَبْتَلِيَهُ بصُحبَةِ الأَشْرَارِ.
وهذا كلُّهُ فيهِ حَثٌّ على البُعْدِ مِن جَلِيسِ السُّوءِ والقُرْبِ مِن الجَلِيسِ الصَّالِحِ.
* وصحَّ عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أنه قالَ: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ»[صحيح الجامع (3545)].
«المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ»، أي: على عَادَةِ صاحِبِهِ وطَرِيقَتِهِ وسِيرَتِهِ وأخلَاقِهِ «فَلْيَنْظُرْ»، أي: لِيَتَأَمَّلْ ويَتَدَبَّرْ «أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ»، أي: يُصاحِب ويُصَادِق. فمَن رُضِيَ دِينُهُ وخُلُقُهُ صَاحِبْهُ وصَادِقْهُ، ومَنْ لاَ، تَجَنَّبْهُ؛ فإِنَّ الطِّبَاعَ سَرَّاقَةٌ، أي: أنَّهُ يَسْرِقُ أَخْلاَقَهُ. «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ»، أي: فأَخلاَقُهُ أَخْلاَقُهُ، ودِينُهُ دِينُهُ، وهَذَا مُشَاهَدٌ. والصُّحْبَةُ مُؤَثِّرَةٌ في إِصلاَحِ الحَالِ وإِفْسَادِهِ. وفي هذا المعنى يقولُ (صلى الله عليه وسلم): «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ»[البخاري عن عائشة (3336) ومسلم عن أبي هريرة (2638)]، أي: إِنَّ الإنسانَ مَجْبُولٌ على الاِقتداءِ بصَاحِبِهِ وجَلِيسِهِ، والطِّبَاعُ والأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ يَقُودُ بَعْضُهَا بَعْضًا إلى الخَيْرِ، أَو إِلى ضِدِّهِ.
كما إِنَّهُ سَائِرٌ وصَائِرٌ إلى صِفَةِ صاحِبهِ وصدِيقِهِ عَن قَرِيبٍ. فيكون خُلُقُه خُلُقه وسِيرَتُهُ وسيرته في المآلِ القَريبِ. والمقصودُ: «أَنَّ الإِنسانَ يَكُونُ في الدِّينِ وكَذَلِكَ في الخُلُقِ على قَدْرِ مَن يُصَاحِب، فلْيَنْظُر مَن يُصَاحِب، فإِن صَاحَبَ أَهلَ الخَيرِ صَارَ مِنهُم، وإِن صَاحَبَ أهل السُّوءِ والشَّرِّ صَارَ مِثْلَهُم».
* صُحبَةُ الأَخيارِ تُوصِلُ العَبدَ إلى أعلى عِلِّيِّين: ففِي حديث الملائكةِ السَّيَّاحِين الطَّوَّافِين في المجالس والطُّرُقَات يَبْحَثُون ويَطلُبُون مجالسَ الذِّكر والمجتمعين على الخَيْرِ والكَلِمِ الطَّيِّب، فإذا وَجَدُوهُم نَادَى بَعضُهُم بَعْضًا: هَلُمُّوا تَعَالَوْا هَذَا مَا كُنتُم تَطلُبُونَ وتُفَتِّشُونَ عَنْهُ، فيَحُفُّونَهُمْ ويَسْتَدِيرُونَ عَلَيهِم حتَّى يَصِلُوا إلى سماءِ الدُّنيا... وفي آخِرِ الحديث: يَصعَدُونَ إلى رَبِّ العِزّة والجلال فيَسْأَلُهُم عَنهُم ويَقوُلُ: «فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. فيَقُولُ مَلَكٌ مِن الملائكةِ: فِيهِم فُلانٌ، لَيْسَ مِنْهُم، إِنَّمَا جَاءَ لحَاجَةٍ! فيَقُولُ: هُمُ القَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ». وفي لفظٍ: «يَقُولُون: رَبِّ فِيهِم فُلانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فجَلَسَ مَعَهُم... قال: فيقولُ: وَلَهُ قَدْ غَفَرْتُ» [البخاري (6408) ومسلم (2689)]. وهذا فِيهِ: «أَنَّ الصُّحبَةَ لَهَا تَأثِيرٌ عَظِيمٌ، وأَنَّ جُلَسَاءَ السُّعَدَاءِ سُعَدَاءُ، والتَّحرِيضُ على صُحْبَةِ أَهْلِ الخَيْرِ والصَّلاَحِ». [«عمدة القاري شرح صحيح البخاري» للحافظ العينيّ].
* صُحبَةُ الأَشرَارِ تُوصِلُ العَبدَ إلى أَسفلِ سَافِلِين: قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾[الفرقان: 27 - 29 ].
* وذَكَرَ اللهُ تعالى في كتابِهِ في سُورة الصَّافَّات قِصَّةَ رَجُلٍ مُؤمِنٍ كَانَ لَهُ صَاحِبٌ كَافِرٌ، كادَ أن يُضِلَّهُ، وكادَ أن يكونَ في النارِ بسبَبِهِ، قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)﴾. ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾، فأَهلُ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ يَجْلِسُ بَعضُهم إلى بعضٍ وتَكُونُ بَينَهُم مُحَاوَرَاتٌ ومُحَادَثَاتٌ ويَتذَاكَرُون ما كَانُوا عليهِ في الماضي، ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾. فيَذكُرُ أَحدُهُم لجُلسائِهِ وأَصحَابِهِ في الجَنَّةِ خَبَرَهُ وقصَّتَهُ معَ صاحبِهِ في الدُّنيا، وكان كافِرًا يُنكِرُ البَعْثَ ويَكفُرُ باليَومِ الآخر، كان هذا الكافِرُ يَلُومُ صَاحِبَهُ المُؤمن ويَتعَجَّبُ كَيفَ يُؤمِنُ بأَنَّ اللهَ يَبعَثُ النَّاسَ مِن قبورهم ويُحْيِيهِم بَعدَ مَوتِهِم لِلجزاء والحساب، يقولُ لَهُ على وَجْهِ التَّكْذِيبِ والاِسْتِبْعَادِ: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾. تَذَكَّرَ صَاحِبُ الجَنَّةِ صَاحِبَهُ هذا فقالَ لأَصحابِهِ في الجَنَّةِ إِنَّ صَاحِبِي في النَّارِ، هَلُمُّوا نَطَّلِعُ عَلَيهِ في النَّارِ ونَرَاهُ رَأْيَ عَيْنٍ، ﴿قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾. فتَبِعُوهُ، وأَشْرَفُوا عَلَيهِ فوَجَدُوهُ في وَسَطِ جَهَنَّمَ وقَد أَحَاطَتْ بِهِ النَّارُ، ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾. ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ﴾، «أي: تُهْلِكُنِي بسَبَبِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَيَّ مِن الشُّبَهِ بزَعْمِكَ. ﴿وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي﴾ عَلَيَّ أَنْ ثَبَّتَنِي على الإِسلامِ ﴿لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ فِي العَذَابِ مَعَكَ»[«تفسير السعديّ»]. فمَدَارُ هذهِ القِصَّةِ على أَنَّ هذا الرَّجُلِ كادَ يُهْلُِكُهُ صاحِبُهُ لولا أنَّ اللهَ سَلَّمَ.
* وقصَّةٌ أخرى من قصصِ السِّيرَة النَّبوِيَّة، وهي قِصَّة مَوتِ أبي طالبٍ عَمِّ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)، وقد كادَ أن يُسْلِم لَكِن حَالَ بَينَهُ وبَينَ الإِيمَانِ أَصحَابُ السُّوءِ، في مَرَضِ وفاةِ أبي طالبٍ جاءَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُحَاوِلُ مَعَهُ المُحَاوَلَةَ الأَخِيرَةَ ويَعْرِضُ عَلَيْهِ كلمةَ التَّوحِيدِ، فقالَ لَهُ: يا عَمِّ قُلْ: لا إلهَ إلاَّ الله كلمةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِندَ اللهِ، وكانَ عِندَهُ، عِندَ رَأْسِهِ: «حَضْرةٌ مِنَ المُشرِكِين قالوا له: أَتَرْغَبُ عَن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِب؟ فَأَخَذَتْهُ النَّخْوَةُ- والعِيَاذُ بِاللهِ- والحَمِيَّةُ الجَاهِلِيَّةُ، وقالَ: هُوَ على مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِب، ومَاتَ ولَمْ يَقُل لا إِلَهَ إلاَّ الله، فصَارَ مِن أَهْلِ النَّارِ»، فَـ«جُلَسَاءُ السُّوءِ- والعِيَاذُ بِاللهِ- تَسَبَّبُوا في شَقَاوَةِ هذا الرَّجُلِ». وهذا «فِيهِ التَّحْذِيرُ مِن جُلَسَاءِ السُّوءِ، مَاذَا جَرَّ على أبي طالِبٍ هؤُلاءِ الجُلَسَاءُ، ومَاتَ على الكُفْرِ بسَبَبِ مَشُورَتِهِمَا- والعِيَاذُ بِاللهِ-».[«شرح كتاب التوحيد» للشيخ ابن فوزان].