آيةٌ عظيمةٌ في كتاب الله، لو تَدَبَّرنَاهَا وتَفهَّمنَاها حَقَّ الفَهم، وعمِلنا بها، لمَا كانت أَحوالُنا على ما هِيَ عليهِ اليومَ فسادًا واضطرابًا إلاَّ ما رَحِمَ ربِّي، لو تَأَدَّبنا بِها لكانَت لنَا عِزًّا ورِفعةً في الدُّنيا قبلَ الآخِرة، ولمَا صِرنَا إلى هَوَانٍ وضَعفٍ.
هذه الآيةُ – عباد الله!- هي قولُ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[التوبة: 119].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾، «أي: اتَّقُوا مُخالفةَ أَمرِ اللهِ»[1].
﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. قال ابنُ عبّاسٍ (رضي الله عنهما): «مَعَ الَّذِينَ صَدَقَت نِيَّاتُهُم فَاستَقَامَت قُلوبُهم وأَعمالُهم وخَرجُوا معَ رسولِ اللهِ إلى تبوك، بإِخلاصٍ ونِيَّةٍ»[2].
هذه الآيةُ – عباد الله!-وَرَدَت بعد سياقِ قصةِ الثَّلاثة الَّذين تَخلَّفُوا معَ المُنافِقِين عَن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يومَ تبوك، فكانُوا فِرَقًا ثلاثةً:
ـ الفِرقة الأُولى: المُهاجِرون والأنصار أَهلُ الصِّدقِ والإِخلاص والنِّيَّة، خَرجُوا معَ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وتَحمَّلُوا مَشَاقَّ السَّفَر في شِدَّة الحَرِّ للجِهاد، ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة: 117]. ويَلحَقُ بهِم أَهلُ العُذر، فهُم كذلكَ أَهلُ صِدقٍ، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[التوبة: 120-121].
ـ والفِرقة الثّانية: فِرقةُ المُنافِقين جاؤُوا مُعتذرِين وتَخلَّفُوا كاذِبِين وحَلَفُوا بالكذبِ وهُم يَعلمُون.
ـ والفِرقة الثّالثة: الثّلاثة الّذين ذَكرَ اللهُ، كعبُ بنُ مالك وصاحباهُ، تَخلَّفُوا ولم يَكُن له عُذرٌ، لكنَّهُم معَ ذَنبِهم كانُوا أَهلَ صِدقٍ، لم يَكذِبُوا رسولَ الله، بل صَدقُوا في الاِعترافِ بالذَّنب، ولم يَعتذِرُوا بالأَعذار الكاذبة، هجرهُم رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) نحوًا مِن شهرٍ وهَجرهُم المسلمون، إلى أن يَنزِلَ فيهِم شيءٌ، وبعد امتحانٍ شديدٍ، نزلَ القُرآنُ بتَوبتهم كما في سُورة التوبة، ونَفعهُم صِدقُهُم، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[التوبة: 118]، «فكانَ عَاقبَةُ صِدقِهِم خَيرًا لهُم وتَوبةً عَلَيهِم»[3]، ثُمّ قال تعالى بعدَها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[التوبة: 119]، «أي: اصدُقُوا والزَمُوا الصِّدقَ تَكُونُوا معَ أَهلِهِ وتَنجُو مِن المَهالِك ويَجعَل لكُم فَرَجًا مِن أُمورِكُم ومَخرَجًا»[4].
والمقصود – عباد الله!- مِن هذا الأمر الإلهي:
ـ ﴿كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾: كُونُوا معَ الصَّادِقِين المُخلِصِين.
ـ ﴿كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ في دِينِ اللهِ نيَّةً وقولاً وعملاً وفي كلِّ شأنٍ مِن الشُّؤُون[5].
ـ ﴿كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ في تَوبتِهِم وإِنَابتِهِم.
قال قتادة (رحمه الله): «الصِّدقُ في النِّيَّة، والصِّدق في العَمَل، والصِّدق في اللَّيل والنَّهار، والصِّدق في السِّرِّ والعَلاَنِية»[6].
فالصِّدقُ نِيَّةٌ وإخلاصٌ... الصِّدقُ تَوبَةٌ ورُجوعٌ وإِنابةٌ.
عباد الله!... لم يَقُلِ اللهُ تعالى: كُونُوا صَادِقِين! بل قال: ﴿كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، لسِرٍّ أَودَعَهُ في هذهِ الآية، لعلَّهُ يكونُ لمَا في القُدوةِ مِن التَّأثيرِ في الاِستِجابة، فإذا رأيتَ مَن سَبَقَكَ في هذا الصِّدقِ ورأيتَ حُسنَ عَاقبتِهِم نَشطَت نَفسُكَ لاِتِّباعِهِم في مَذهبِ الصِّدقِ والاِقتداءِ بِهِم.
وأيضًا لحِكمةٍ أُخرى، أَلاَ وهِيَ: التَّنوِيهُ بالصَّادِقِ، لعِزَّةِ الصَّادِقِين وقِلَّتِهِم ونُدرَتِهِم نَوَّهُ اللهُ بهِم وجَعلَهُم أئمَّةً للمُتَّقِين، جاءَ في بعضِ الآثار: «أحسنُ مِن الصِّدقِ قَائِلُهُ، وخَيرٌ مِن الخَيرِ فَاعِلُهُ»[7].
ـ كان السَّلَفُ (رضوان الله عليهم) يَحرِصُون على تَعليمِ ناشئتِهم الصِّدق مِن صِغرهِم، قال أسعد بن عبيد الله المخزومي: «أَمرنِي عبدُ الملك بن مروان أن أُعلِّمَ بَنِيهِ الصِّدقَ كما أُعلِّمُهُم القُرآن»[8].
ـ والصّدقُ- عباد الله!- مَنجاةٌ للعبدِ في مواقفِ الشّدّة، «عن أبي حاتم الرّازي قال: قُلتُ لأحمد بن حنبل: كيفَ نجوتَ مِن سيفِ الواثِق وعصا المعتصِم؟ فقال لي: يا أبا حاتم! بالصِّدق، لو وُضِعَ الصِّدقُ على جُرْحٍ لَبَرَأَ»[9].
ـ وكان الفضيلُ (رحمه الله) يقول: «لم يَتَزَيَّن العبادُ بشَيءٍ أفضلَ مِن الصِّدقِ»[10].
الخُطبة الثَّانية:
جاء عن بعض المفسِّرين في هذه الآية: ﴿كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، قال: «أُمِرُوا أَن يَكُونُوا مَعَ أبي بكرٍ وعُمرَ وأَصحابِهِمَا»[11].
وأَسوقُ لكُم أَثَرَينِ عظيمَينِ في مَواقفِ الصَّادِقِين، بل أَعظمُ مَن صَدَقَ بعدَ الأَنبِياء، الأَوَّل عن الصِّدِّيق أبي بكرٍ، والثَّاني: عن الفَارُوق عُمر (رضي الله عنهما).
1 ـ «لمَّا وَلِيَ أبو بكرٍ (رضي الله عنه) أَمرَ النَّاسِ بعدَ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) صَعِدَ المنبرَ فحمِدَ اللهَ وأَثنَى عليهِ، ثُمّ قال: يا أيُّها النّاس! إنِّي قَد وُلِّيتُ عَليكُم أَمرَكُم هذا، ولَستُ بخَيرِكُم، فإِن أَحسَنتُ فأَعِينُوني، وإِن زِغتُ فقَوِّمُونِي. الصِّدقُ أَمانَةٌ والكَذِبُ خِيانةٌ، ... الضَّعيفُ فِيكُم: القَوِيُّ عِندِي حتَّى آخُذَ لهُ الحَقّ، والقَوِيُّ عندكُم: الضَّعيفُ عِندِي حتَّى آخُذَ الحَقَّ مِنهُ، ... أَطِيعُونِي مَا أَطعتُ اللهَ تعالى ورَسولَهُ، فإِذَا عَصيتُ اللهَ ورَسولَهُ فلاَ طَاعةَ لي عَليكُم. قُومُوا إلى صَلاَتِكُم»[12].
وخُطبةُ الصِّدِّيقِ تَلُوحُ لنا مَعالِم للصِّدق، منها:
1 ـ أنَّهُ (رضي الله عنه) لم يَكُن ذا حِرصٍ وطَمعٍ في هذا المنصب، جاء في بعض الآثار: «قِلَّةُ الحِرصِ والطَّمَع يُورِثُ الصِّدقَ والوَرَع»[13]. فالحِرصُ والطَّمَع لا يَجتمعان معَ الصِّدق.
2 ـ أنَّهُ (رضي الله عنه) لم يَكُن مُدَاهِنًا، جاء في بعضِ الآثار: «لا يشُمُّ طريقَ الصِّدقِ عَبدٌ دَاهَنَ نفسَهُ أو دَاهَنَ غيرَهُ»[14].
2 ـ «لمَّا تُوفِّي رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) قام عمرُ بن الخطاب في النَّاسِ خطيبًا، فقال: لاَ أَسمعنَّ أحدًا يقول: إنَّ محمّدًا (صلى الله عليه وسلم) قَد مَاتَ، إِنّ محمّدًا لم يَمُت، ولكن أُرسِلَ إليهِ بِهِ كما أُرسِلَ إلى مُوسى فلَبِثَ عَن قَومِه أربعين ليلةً... [جاء أبو بكرٍ ودخلَ على النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وهُو مُسَجًّى، فقَبَّلَهُ أبو بكرٍ] ثُمَّ خَرجَ أبو بكرٍ وعُمرُ يُكلِّم النَّاسَ، فقال: اجلِس! فأَبَى عُمرُ أَن يجلِس، فقال: اجلِس! فأَبَى أَن يجلِس، فتَشَهَّدَ أبو بكرٍ فمَالَ النَّاسُ إليهِ وتَركُوا عمر، فقالَ: أيُّها النَّاسُ! مَن كانَ مِنكُم يَعبدُ محمّدًا، فإِنّ محمّدًا قد ماتَ، ومَن كان يَعبدُ اللهَ فإِنَّ اللهَ حيٌّ لا يموتُ. [حِينَها صُعِقَ عمرُ وعَرفَ أنَّ رسولَ اللهِ قَد مَاتَ]
وحِينَ بُويِعَ أبو بكرٍ في مسجدِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، واستوَى أبو بكرٍ على مِنبرِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، قامَ عمرُ فتَشَهَّدَ قبلَ أبي بكرٍ، ثمّ قال: أمّا بعدُ فإِنِّي قَد قُلتُ لكُم أمسِ مَقالةً لم تَكُن كما قُلتُ، وإِنِّي واللهِ ما وَجدتُها في كتابٍ أَنزلَهُ اللهُ ولا في عَهدٍ عهدهُ إليَّ رسولُ اللهِ، ولكن كنتُ أَرجُو أن يَعيشَ رسولُ اللهِ حتَّى يكونَ آخرنا، فاختارَ اللهُ جلّ وعلا لرَسولِه الَّذي عندهُ على الَّذي عِندكُم. وهذا كتابُ اللهِ هَدَى اللهُ بهِ رسولَهُ فخُذُوا بهِ تَهتَدُوا بما هَدَى اللهُ بهِ رسولَهُ»[15].
فهذا صِدقُ عُمرَ! لم يَأنَف أَن يُصحِّح خطأَهُ وأَن يَعترفَ بأنَّ مَا قالَهُ لم يكُن صوابًا، فالصّدقُ تواضعٌ للحقِّ واعترافٌ بالخطَأ، ولم يَضُرَّه ذلك ولم يُنقِص قَدرَهُ عندَ النّاس.
[1] - «تفسير القرطبي» (8/288).
[2] - «تفسير الثعلبي» (3/29) و«تفسير اللباب» لابن عادل (10/235).
[3] - «تفسير ابن كثير» (4/230).
[4] - «تفسير ابن كثير» (4/230).
[5] - «تفسير أبي السعود» (4/110).
[6] - «تفسير ابن أبي حاتم» (6/1907).
[7] - «الأمالي الشجرية» (ص395/الشاملة).
[8] - «الصمت» لابن أبي الدنيا (448).
[9] - «الترغيب والترهيب» لقوام السنة (1625).
[10] - «الترغيب والترهيب» لقوام السنة (1622).
[11] - «الدر المنثور» (7/582).
[12] - «الترغيب والترهيب» لقوام السنة (716).
[13] - «الزهد الكبير» للبيهقي (160).
[14] - «الزهد الكبير» للبيهقي (945).
[15] - «التعليقات الحسان» (6586).
كتب المقال: المشرف العام