أُلقِيت يوم الجمعة 18 ذو القعدة 1435هـ- 12 سبتمبر 2014م.
مِن أسمائه تعالى: «العَزِيزُ»، «أي: الغالِبُ الّذي لاَ يَغلبُهُ شيءٌ»[«العذب النمير» (1/552)].
وهُوَ جلَّ وعلاَ مَوصُوفٌ بالعِزَّة، يَعلمُ ذلكَ حتَّى إِبليس! ألم يقُل -لعنهُ الله-: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[ص: 82-83].
والعزَّةُ حقيقةً إنما تكونُ بالله، فهي كلُّها للهِ، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[الصافات: 180].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾[يونس:65]، «أي: القُوّة الكامِلة والغَلَبَة الشَّاملة والقُدرَة التَّامَّةُ للهِ وحدهُ، فهُو النَّاصِرُ والمُعِينُ والمَانِعُ»[«تفسير القرطبي» (8/359)].
عباد الله! وهذا تنبيهٌ لكم: مِن أَينَ تُنَالُ العِزّة؟ مِن أينَ تُستَحَقّ؟ قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[فاطر: 10]، من أراد أن يطلب العِزّة الّتي لا ذُلّ معها، العِزّة في الآخرة وفي الدُّنيا، فليَطلبها مِن الله. مَن أراد أن يطلب العِزّة فليطلُبها بعبادةِ اللهِ وطاعتِه... إذا أردتَ أن يُعِزَّكَ اللهُ، فأَعِزَّ أَمرَ اللهِ، أَعِزَّ دِينَهُ، إذا أردتَ أن يُعِزَّكَ اللهُ فكُن في جُملةِ عبادِهِ المؤمنين[«تفسير ابن كثير» (2/435)]. «لذلكَ أعلمَ اللهُ عبادهُ أنّ الّذي يُطلَبُ بهِ العِزّة هُو الإِيمان والعمل الصّالح، فقال بعدَ ذلك: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾»[«رموز الكنوز» للرسعني (6/276)]. وَ«الكَلِمُ الطّيّب: لا إله إلا الله، والعملُ الصّالحُ: أَدَاءُ الفرائِض واجتِنابُ المحارِم».
مَن أطاعَ اللهَ عزَّ وجلَّ فإِنَّهُ تعالى يُعِزُّهُ في الآخرةِ وفي الدُّنيا... «مَن أَرادَ عِزَّ الدَّارَينِ فليُطِع العَزِيز».
ـ ولقد نصر اللهُ أصحابَ محمّدٍ (صلى الله عليه وسلم) يومَ بَدرٍ وكانُوا قِلَّةً، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾[آل عمران: 123]، لم يكونوا أذِلَّةً في أنفُسهم بل كانوا أَعِزَّةً بدِينِهم، وإنّما كانُوا أذلّةً في زَعمِ مَن يَجهلُونَ بأنَّهُ لا عِزَّةَ إلاَّ باللهِ. ومعنى الذِّلَّة هُنا: القِلَّةُ وضَعفُ الحال، وقِلَّةُ السِّلاح والمال، وعدمُ القُدرة على مُقاومة العدوّ. وضدُّ الذِّلَّةِ العِزَّة، وهي: القُوَّة والغَلَبَة... فأَعزَّهُمُ اللهُ بعِزِّهِ، لأنَّهُم عبادُه وأهلُ طاعته وأنصارُه وأنصارُ دينه، وهُم جُندُه، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾[الصافات: 173]، فأنجزَ اللهُ وعدَهُ، وأَعَزَّ جندَهُ، ونصرَ عبدَهُ، وغلبَت الفئةُ القليةُ الفئةَ الكثيرةَ الذين معهم «الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة»[«تفسير اللباب» (5/514)].
ـ ونبَّهنا ربُّنا إلى أنَّهُ مَن طلب العِزَّةَ مِن غيرِه، وَكَلَهُ إلى مَن طلبها عندَهُ، وذكرَ سبحانه قومًا طلبُوا العِزَّةَ عندَ مَن سِواهُ فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾[النساء:139]، «فالمنافقون كانوا يَطلبُون العِزَّةَ والقُوَّةَ بسببِ اتِّصالهم باليَهود، فأَبطلَ اللهُ عليهِم هذا الرَّأيَ بقَوله: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾»[«تفسير اللباب» (7/76)]. وفي هذا تنبيهٌ للمؤمنين مَن تساهلَ منهُم أو تهاونَ في هذا الأَمر حتَّى لا يَتشبَّهَ بالمُنافقينَ.
ـ وذكر اللهُ أقوامًا اعتزُّوا بغيرِ اللهِ فأذلّهم اللهُ: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾[سبأ: 35]، «تَوهَّمُوا أَنَّ العِزَّةَ بكَثرةِ الأَموال والأَتباع، فبيَّنَ اللهُ أنَّ العِزَّةَ والمَنَعَةَ والقُوَّةَ للهِ»[«تفسير القرطبي» (18/129)].
قال الله تعالى عن عادٍ: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ . فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾[فصلت: 15-16]، وقال تعالى في موضعٍ آخر: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ . فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾[الحاقة:6-8]، أبادهُم اللهُ ولم يُبقِ منهم أحدًا، قال الربيع بن خثيم (رحمه الله): «إن عادًا كانوا ما بين اليمن والشام أمثال الذرّ – أي: صغَار النَّمل، أي: كثرةً، لا يُحصي عددَهُم إلاَّ الله-، قال: فمَن أَتَانِي بواحدٍ منهُم فَلَهُ كذا وكذا». يتحدَّى، أينَ هُم؟ ما أبقى اللهُ منهُم أحدًا.
ـ وقد جعل الكُفَّارُ يُهدِّدُون محمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) ومَن آمَنَ معهُ، هَدَّدُوهُ «وخَوَّفُوهُ بأنَّهُم أصحابُ أموالٍ وأتباعٍ [وقالوا:] سنَسعَى في قَهرِك وفي إِبطَالِ أَمرِك»، وقالُوا: لَن يَتِمَّ أَمرُ مُحمّدٍ! فأجاب ربُّ العِزَّةِ عن تهديدهم بقولِه: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[يونس: 65]، ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾: لا خوفٌ عليك. آمَنَهُ مِمَّا يَقُولُون [«تفسير اللباب» (10/368)]. ثمّ قال: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾، فكأَنَّ قائلاً يقولُ: لِمَ لا يَحزُنُنا تهديدُهم ولا يُخِيفُنا؟ لِمَ لا نُبالِي بهم؟ مع أنَّ مظاهر القُوَّة والغَلَبة لهم، أسلحةٌ كثيرةٌ وعُدَّةٌ كاملةٌ، وكثرةُ أتباعٍ وسيطرةٌ على مَوارِد الأَموَال...؟ الجوابُ: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾، «ليسَ لهُم مِنها شيءٌ»[«تفسير اللباب» (10/369)].
قال المفسّرون: «إنَّ المشركين يَتعزَّزُون [بقُوَّتهم] ويُخوِّفُونك بها، وتلك الأشياءُ كلُّها للهِ تعالى، فهُو تعالى قادرٌ على أَن يَسلُبَ منهُم كلّ تلك الأشياء، وينصُرك، ويَنقُل أموالهم وديارهُم إليكَ»[«تفسير اللباب» (10/370)]. «وهو القادرُ على الاِنتقام منهم»، «فهُم في سُلطانِ اللهِ وسيُعامِلُهم بما تَقتضيهِ حالُهُم»[«تفسير البسيط» (11/252)].
ولذلكَ ناسبَ أن يأتي بعد هذه الآية قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾[يونس:66]، فالمخلوقاتُ جميعها ملكٌ له تعالى، وهي مقهورةٌ لهُ، ، «فلا يُغالبُهُ سبحانه شيءٌ»[«تفسير البحر المحيط» (5/174)].
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[آل عمران: 26].
الخطبة الثانية:
ونختمُ هذا الموضوع بثلاثةٍ من المواقِف المتعلِّقَةِ بالعِزَّةِ، نجعلُها نصبَ أعيُننا، ونتَّخِذُها رائدًا لنَا، وهادِيًا ومُذكِّرًا.
أمَّا الموقف الأول:
عن جُبير بن نُفير (رحمه الله) قالَ: «لمّا فُتِحَت «قُبرُس» فُرِّقَ بين أهلِها، فبَكَى بعضُهم إلى بعضٍ، فرأيتُ أبا الدرداء (رضي الله عنهُ) جالسًا وحدهُ يَبكِي، فقُلتُ: يا أبا الدرداء! ما يُبكِيكَ في يومٍ أَعَزَّ اللهُ فيهِ الإِسلامَ وأَهلَهُ؟ فقالَ: وَيحَكَ يا جُبير! مَا أَهوَنَ الخَلقَ على اللهِ عزَّ وجَلَّ إِذَا أَضَاعُوا أَمرَهُ، بَينَما هي أُمَّةٌ قاهِرةٌ ظَاهرةٌ لهُم المُلكُ، تَرَكُوا أَمرَ اللهِ فصَارُوا إِلَى مَا تَرَى!» [«الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» لابن القيم].
الموقف الثاني:
قال الحسن البصري (رحمه الله): «إِنَّهُم وإِن طَقْطَقَت بهِمُ البِغَالُ وهَمْلَجَت بهِم البَرَاذِينُ (أي: وإن ركبوُا في المراكِب الفَخْمَة، يمشُونَ فِي مَظاهِر العِزِّ فيمَا تَرونَ!)، إِنَّ ذُلَّ المَعصيةِ لاَ تُفَارِقُ قُلوبهُم [لاَ تُفارِقُ رِقابَهُم] أَبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُذِلَّ مَن عَصَاهُ»[«الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» لابن القيم].
الموقف الثالث:
عن طارق بن شهاب قال: «لمَّا قدِمَ عمرُ (رضي الله عنه) الشَّامَ عرضَت لهُ مَخَاضَةٌ – أي: مُجتَمعُ ماءٍ-، فنزلَ عَن بعيرِه، وقلعَ مُوقَيهِ-أي: خُفَّيهِ- فأَمسكهُما بيدِه، فخاضَ عمرُ الماءَ ومعهُ بعيرُه، فقال له أبو عبيدة (رضي الله عنه): قَد صَنعتَ صَنِيعًا عظيمًا عندَ أهل الأرض كذا وكذا، قال: فصَكَّ في صَدرهِ، وقال: "أوهْ! لَو غيرُك يَقولُها يا أبا عبيدة! إِنَّكُم كُنتُم أَذلَّ النَّاس، وأَحقَرَ النَّاس، وأَقلَّ النّاس، فأَعزَّكُم اللهُ بالإِسلامِ، فمَهمَا تَطلُبُوا العِزّةَ بغَيرِ اللهِ يُذِلّكُم اللهُ»[«محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب» لابن عبد الهادي (2/591)].
وذكر أبو القاسم الأصفهاني عن طارق بن شهابٍ قالَ: «قَدِمَ عمرُ الشَّامَ فتلقَّتهُ الجُنودُ، وعليهِ إزارٌ وخُفَّانِ وعمامة، وهُو آخذٌ برَأسِ رَاحِلتِهِ، فقالُوا: «يا أمير المؤمنين! تَلقَاكَ الجُنودُ والبَطارِقةُ وأنتَ على حالِكَ هذه؟!»، فقالَ: «إِنَّا قومٌ أَعزَّنَا اللهُ بالإِسلامِ، فلَن نَلتَمِسَ العِزَّةَ بغَيرِهِ»»»[«محض الصواب» (2/591)].