قال اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾[آل عمران: 102]، «اتَّقُوا اللهَ الاِتِّقَاءَ الحقَّ، أي: الواجِبَ الثَّابِت».
﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: «رَاقِبُوهُ ودُومُوا على طاعتِهِ»، ومَعنى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾«حقَّ خوفِهِ».
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾: «أمرٌ لهُم بالتَّأهُّب للمَوتِ على الإِسلام والمُداومةِ على الطَّاعة لأَجلِ ذلكَ».
قال تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾[الأعراف: 26]، «لِباسُ التَّقوَى: الحَيَاءُ».
قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «مَن استَحيَا استَخْفَى، ومَن استَخفَى اتَّقَى، ومَن اتَّقَى وُقِيَ».
وقال أيضًا: «مَن قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ – أي: خَوفُهُ- ومَن قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلبُهُ».
وَقال سفيان بن عيينة (رحمه الله): «وهَل دَخَلَ أَهلُ التَّقوَى في التَّقوَى إِلاَّ مِنَ الحيَاءِ»[1].
عبادَ الله، صحَّ من حديثِ عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: «قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): «استَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ». قال: قُلنا: يا نبيَّ اللهِ! إِنَّا لَنَستَحيِي والحَمدُ للهِ. قال: «لَيسَ ذلِك، ولكِن الاِستِحيَاءُ مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَن تَحفَظَ الرَّأسَ ومَا وَعَى، وتَحفَظَ البَطنَ ومَا حَوَى، وتَذكُرَ المَوتَ والبِلَى، ومَن أَرادَ الآخِرةَ تَركَ زِينةَ الدُّنيَا. فمَن فعلَ ذلِك فقَد استَحيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ»»[2].
«استَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ»، أي: حياءً ثابِتًا[3]، لاَزِمًا صَادِقًا، وهو معنى قولِه تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾.
«قُلنا: يا نبيَّ اللهِ! إِنَّا لَنَستَحيِي»، لم يقولوا: حقَّ الحياء، اعترافًا بالعجزِ عنهُ[4]، «والحَمدُ للهِ» على توفيقنا بِهِ.
«قال: لَيسَ ذلِك»، أي: ليسَ حقّ الحياء ما تحسبون!
«ولكِن الاِستِحيَاءُ مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَن تَحفَظَ الرَّأسَ ومَا وَعَى».
1 ـ «أَن يَحفَظَ الرَّأسَ» أي: رأسَهُ، «ومَا وَعَى»، أي: ما جمعهُ الرَّأسُ مِن الحواسّ الظاهرة والباطنة. فيَحفظُ رأسَهُ عن استعماله في غيرِ طاعةِ اللهِ.
ـ وَمِن حِفظِ الرّأس: التَّنزُّه عن الشِّرك، فلا يُوجِّه وجهَه إلى غيرِ اللهِ حِينَ الدعاء والسُّؤال والطَّلَب، ولا يخضع بهِ لغيرِ اللهِ. فالَّذين يتوجهون إلى القبور ويَحنُونَ رُؤُوسَهم عندَ عَتباتِها خاضعِين ذَلِيلِين، ويَطلُبون منها ما لا يُطلَب إلاَّ مِن اللهِ! هؤلاءِ ما استَحيوا مِن اللهِ حَقَّ الحياء، وما اتَّقَوا اللهَ حَقَّ تُقاتِه! ومِن حفظ الرأس ومِن تنزيهه عَن الشِّركِ، أن لاَ يَسجُد لغَيرهِ سبحانَهُ.
ـ مِن حفظ الرأس: أن لا يُصلِّي رياءً، بل يُوجّهُ وجهَه في صلاتِهِ إلى الله، فلا يَلتفِتُ إلى غيرِهِ.
ـ مِن حفظ الرأس: أن لا يرفعه تكبُّرًا، رُوي عن أبي المستضيء قال: «رأيتُ هشام بن عمار وهو شيخٌ... إذا مشى أَطْرَقَ إلى الأرض- أي: خفضَ رأسَهُ- لا يَرفعُ رأسهُ إلى السَّماء حياءً مِن اللهِ عزَّ وجلَّ». قال تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾[الإسراء: 37]، وعليهِ فالَّذِي يَمشي في الأَرض تَكبُّرًا ما استحيَى مِن اللهِ تعالى، وهُو يَمشِي فوقَ أرضِه وتحتَ سمائِه.
ـ «ومَا وَعَى». مِن حِفظِ الرأس: حِفظُ ما جَمعَهُ الرَّأسُ مِن اللِّسانِ والعَين والأُذن عمَّا لا يحلُّ استعمالُهُ.
يَحفظُ اللِّسان، فلا يتكلَّم بهِ إلاَّ بالخيرِ، ويكفُّ لسانهُ عن الحرام والإِثم، فلا يَنطِق به إلاَّ خيرًا، رُوي عن أنسٍ (رضي الله عنهُ) قالَ: «لاَ يَتَّقِ العبدُ اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ حتَّى يَخزِنَ مِن لِسانِهِ»[5].
ويَحفظُ العَين والبَصر، فلا يَرَى ولا يُبصِر بعَينِه إلى حرامٍ ولا يَنظُر إلى ما فيهِ إثمٌ. فاغضُض – يا عبدَ الله!- عينَكَ عن المحرّمات والشّبهات.
ويَحفظُ الأُذن فلا يستمِع إلى ما لا يحلُّ استماعُهُ. فسُدَّ-يا عبدَ الله!- سمعَكَ عن الإصغاءِ إلى ما يَحرُمُ وإِلى مَا لا يَعنيكَ مِن الأَباطيل.
2 ـ «وليَحفَظ البَطنَ ومَا حَوَى»، أي: وما جمعهُ الجَوْفُ مِن القلبِ والفَرْج واليدين والرجلينِ. والمقصود ما اتَّصَلَ بالجَوفِ مِن هذهِ الأَعضاء. وحِفظُها ألاَّ يَستعملَها في الحرامِ.
ـ يَحفظُ الفَرْجَ عن الزِّنا والاِستمتاع المُحرَّم.
ـ يَحفظ اليدَين عن المسِّ المحرَّم والبَطْش والاِعتداء الّذي يكون باليد كالضَّربِ ونحوهِ.
ـ يَحفظُ الرِّجلينِ عن المَشي بهِما إلى حرامٍ.
ـ يَحفظُ البطنَ فلا يُدخِل جَوْفَهُ لُقمةَ حرامٍ أو ما فيهِ شُبهةُ الحرام، فلا يَجمع فيهِ إلاَّ الحلال، ولا يَأكُل إلاَّ الطّيّب.
3 ـ «وليَذكُرِ المَوتَ والبِلَى»، يعني: تتذكَّر أَنَّك تَصِيرُ في القبرِ عِظامًا باليةً، مُتفتِّتَة، وأعضاؤُكَ مُتمزّقَة. ومَن تَذكَّر هذا هَانَت عليهِ الدُّنيا ولذّاتُها العاجِلَة، وجعلَ همَّهُ طلبَ الآجِلَة، وعمِلَ على إِجلالِ اللهِ وتعظيمِهِ[6].
جاءَ هذا الحديث مِن روايةٍ أخرى عن عائشة، وفيهِ زيادةٌ، «قالت: بينما النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يخطبُ على المنبر، والنَّاسُ حولَهُ وأنا في حُجرتي سمعتُهُ يقولُ: أيُّها النَّاس... – إلى قوله- وليَذكُر القبور والبِلَى. فما زالَ يُردِّدُ ذلكَ حتَّى سمعتُهُم يَبكُونَ»[7]. فاستحيِي مِن اللهِ – يا عبدَ الله!- أن يَراكَ ربُّكَ نَاسِيًا للقبر غافِلاً عن المَوت، لاهِيًا لاعِبًا ضاحِكًا!
4 ـ «ومَن أَرادَ الآخِرةَ تَركَ زِينةَ الحياةِ الدُّنيَا»، «ومَن أَرادَ الآخِرةَ»، أي: الفوزَ بنَعيمِها، «تَركَ» حَتْمًا، أو: فَليَترُك «زِينةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا»؛ لأَنَّهُما ضَرَّتَانِ، لا تَجتَمِعَانِ.
«فمَن فعلَ ذلِك»، أي: ما ذُكِرَ، فحفظ جميعَ جوارحِهِ عَمَّا لا يَرضَى، ولَم يَستعمِلها في المعاصي، بل في مَرضَاةِ اللهِ تعالى، «فقَد استَحيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ».
الخطبة الثانية:
قولهُ (صلى الله عليه وسلم): «فقَد استَحيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ»، أي: وصلَ إلى درجةِ المُراقَبَة، وهيَ: «أَن تعبُدَ اللهَ كأَنَّكَ تَرَاهُ، فإِن لم تَكُن تَرَاهُ فإِنَّهُ يَرَاكَ».
وقد كان سلفُنا الصَّالِحُ (رضوان الله عليهم) يُعامِلُونَ اللهَ على أَساسِ المُراقبَة.
كان الصِّدِّيقُ (رضي الله عنه) يقولُ – وهو يخطبُ النَّاسَ-: «يا معشرَ المسلمين! استَحيُوا مِن اللهِ، فوَالَّذِي نفسي بيَدِهِ، إنّي أَذهبُ إلى الغائطِ فأَظَلُّ مُتَقَنِّعًا بثَوبي حياءً مِن ربِّي عزَّ وجلّ».
وكان أبو موسى الأشعري (رضي الله عنه) إذا اغتسلَ في بيتٍ مُظلمٍ لا يُقيمُ صُلبَهُ[يَحنِي ظَهرَهُ] حياءً مِن اللهِ عزَّ وجلّ، ويقول: «إنِّي لأغتسلُ في البيتِ المُظلمِ، فأَحنِي ظَهرِي [فما أُقِيمُ صُلبِي] إذا أخذتُ ثوبي حياءً مِن ربِّي عزَّ وجلّ».
وخرَّج البخاريُّ في تفسيرِهِ (4681) عن ابن عبّاسٍ(رضي الله عنهما) في قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ﴾[هود:5]، أنَّها نزلت في قَومٍ كانُوا يُجامِعُون نساءَهم ويَتخَلَّونَ فيَستحيُونَ مِن اللهِ، فنزلت الآيةُ. يَستحيُون أَن يَستقبلُوا بفُرُوجِهِم السَّماءَ حالَ الجِماعِ والخَلاَء.
هذا مع أنّ هذه الأشياء مُباحةٌ لابن آدمَ، كالجِماعِ وخروجه للغائطِ، فإِنّهُ طبيعةٌ مُعتادةٌ وغريزةٌ. لكِن كانوا يَلحظونَ مَلْحَظًا آخر هُوَ: مُراقبَةُ اللهِ تعالى.
سُئل النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم): «يَغتسِلُ عُريَانًا وَحدهُ في الخَلوَةِ»؟ – أي: يَكونُ خالِيًا-. فقال: «اللهُ أَحَقُّ أَن يُستَحيَا مِنهُ مِنَ النَّاسِ»[8]. فسُبحان الله! الرَّجلُ يكونُ في بَيتهِ ليسَ معهُ أَحدٌ، يَتجرَّدُ للاِغتِسال، النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقولُ: التَّسَتُّر أَفضلُ.
فكيفَ بنا اليومَ في هذا الزَّمان العجيب؟! زمنِ كَشْفِ العَورَات، هيَ المُصيبَةُ الدَّهيَاء الَّتِي أَصابَت المسلمين رجالاً ونِساءً صِغارًا وكبارًا حتَّى العجائز، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله! فإِنَّهُم لاَ يَستحيُون.
مرَّ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) برِجالٍ عُرَاةٍ، فدخلَ (صلى الله عليه وسلم) بيتَهُ مُغضَبًا، وقالَ: «سُبحانَ الله! لا من اللهِ استَحيُوا، ولا مِن رسولِهِ استترُوا»[9].
ونقولُ: هؤلاء أصحابُ الشَّواطىء، العُرَاةُ! لم يَستحيُوا مِن اللهِ، ولم يخافُوا مِن اللهِ، هؤلاءِ لَبَّسَ عليهِم إِبليسُ فمَسخَ فِطرتَهُم، وسَنَّ لهُم العُرْيَ ونَسخَ سُنَّةَ أَبِيهِم آدم، فإنَّهُ (عليهِ السَّلام) لمّا انكشفت عورتُهُ عمدَ إلى ورقِ الجنَّةِ وجعلَ يَستَتِرُ بها، قال تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ . وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾[الأعراف: 20-22] .
فيا عبادَ الله! «استَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ»، وينبغِي لكُلِّ أَحَدٍ أن يُكثِرَ ذِكرَ هذا الحديث بحَيثُ يصيرُ نُصبَ عَينيهِ[10].
[1] - «فيض القدير» (1/623).
[2] - «صحيح الترغيب والترهيب» (1724).
[3] - «فيض القدير» (1/623).
[4] - «مرقاة المفاتيح» (5/320).
[5] - «تفسير ابن كثير» (2/87).
[6] - «فيض القدير» (1/624).
[7] - «أمالي ابن سمعون» (288).
[8] - «صحيح الجامع» (208).
[9] - «الصحيحة» (2991).
[10] - «فيض القدير» (1/624).
كتب المقال: المشرف العام