: دروسٌ وعِبَرٌ (05):
عِبادَ اللهِ!...سنُورِدُ على مَسامِعِكُم قِصَّةً عَظِيمَةً، في قَضِيَّةٍ خَطِيرَةٍ، قَد يَغفَلُ عَنها كثيرٌ مِن النَّاسِ، ولاَ يُعطُونَهَا حَقَّهَا مِن العِنَايَةِ والاِهتِمام، ورُبَّمَا اقتَحَمَها كثيرٌ مِن النَّاسِ لجَهلِهِم وغَفلَتِهِم، حَيثُ غَابَت عنهُم خُطُورتُها وعَوَاقِبُها الوَخِيمَة، إِنَّها قَضِيَّةُ: إِيذَاءِ أَولياءِ اللهِ، والإِساءةِ إلى الضُّعفاءِ مِن عبادِ اللهِ الصَّالحين، واحتِقَارِهم وتَنَقُّصِهِم، فأَصغُوا – بَارَكَ اللهُ فِيكُم- لهذا الحديث:
روى مُسلمٌ (2504) عن أبي هبيرة؛ عَائِذ بن عمرو المُزَنيّ (رضي الله عنه): «أَنَّ أبا سُفيان أَتَى على سَلمانَ وصُهَيبٍ وبِلَالٍ في نَفَرٍ، فقالوا: وَاللهِ مَا أَخَذَت سُيُوفُ اللهِ مِن عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَها! (أي: حَقَّهَا) [1] (أي: لم تَعمَل فِيهِ سُيُوفُ المُسلِمِين) [2]، قَالَ: فقَالَ أَبُو بكرٍ: أَتَقُولُونَ هذَا لشَيخِ قُرَيشٍ وَسَيِّدِهِم؟ فأَتَى النَّبيَّ (صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ) فأَخبَرَهُ، فقَالَ: «يَا أَبَا بَكرٍ! لَعَلَّكَ أَغضَبْتَهُم؟ لَئِن كُنْتَ أَغضَبْتَهُم لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ». فأَتَاهُم أَبُو بَكرٍ، فقَالَ: يَا إِخْوَتَاهُ! أَغْضَبْتُكُم؟ قَالُوا: لاَ، يَغفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَخِي!».
مَرَّ أبو سفيانَ على سلمان وصهيبٍ وبلالٍ (رضي اللهُ عنهُم)، وكان أبو سُفيانَ إِذ ذَاكَ كَافِرًا، ووقعَ هذا في زمانِ الهُدْنَةِ بَعدَ صُلحِ الحُدَيبِيَّة[3]، فقالوا: «وَاللهِ مَا أَخَذَت سُيُوفُ اللهِ مِن عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَها!».
قَالُوا هذا، وأبو سفيانَ يَسمعُ هذا الكلام الشَّدِيد، تَذَكَّروا مَا لَقوهُ مِن الأَذَى والتَّعذِيب والاِضطهاد مِن صنَادِيد قُرَيشٍ، لم يُشفُوا أَنفُُسَهُم، لم يُشْفُوا غُلَّتَهُم ممَّا فعل بهِم أَسيَادَهُم مِن قُريشٍ، وكان هؤلاءِ الثَّلاثةُ مِنَ العَبِيدِ والمَوَالِي، كانُوا عبيدًا فأُعتِقُوا، صُهيبٌ الرُّوميّ، وبِلالٌ الحَبَشِيّ، وسَلمانُ الفَارِسِيّ، كُلُّهُم عُذِّبُوا في دِينِ اللهِ عَزَّ وجَلّ، فكَأَنَّ أبا بكرٍ وكَانَ حَاضِرًا، لمَّا سَمِعَ كلامَهُم هذا لاَمَهُم على ذلك، وعَاتَبَهُم فِي هذا الكلامِ الشَّدِيد، كان أبو بكرٍ يوَدُّ أن يتألَّفَ أبا سفيان، ولا يُطِيح بمَقَامِهِ ومَنزِلَتِهِ، فهُو سيِّدٌ في قُريشٍ، لَعَلَّ الإِيمانَ يَسكُنُ قَلبَهُ، لعلَّ أبا سفيان يَمِيلُ إلى المؤمنين، هذِهِ هِيَ نَظرةُ أبي بكرٍ. فقال لهُم مُعَاتِبًا مُستَنكِرًا: «أَتَقُولُونَ لسَيِّدِ قُريشٍ هذا الكلامَ؟!»، ولَم يَقصِد أَبُو بكرٍ احتِقَارَهُم ولاَ الإِنقَاصَ مِن قِيمَتِهِم، ذهبَ أبو بكرٍ إلى رسولِ اللهِ (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ) يُخبِرُهُ بِمَا جَرَى لَهُ مع إِخوَانِهِ، ويَشكُوهُم لفِعلِهِم وتَصَرُّفِهِم. فماذا حَصَل؟ ماذا كان مَوقِفُ رسولِ اللهِ؟
قَالَ: «يا أَبَا بَكرٍ! لَعَلَّكَ أَغضَبْتَهُم؟ لَئِن كُنْتَ أَغضَبْتَهُم لَقَد أَغْضَبْتَ رَبَّكَ».
لعلَّكَ أَسَأتَ إِليهِم، فتَسبَّبتَ في غَضَبِهِم. ثُمَّ بيَّنَ النَّبيُّ (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ) مَا يَتَرَتَّبُ على غَضَبِ هؤلاءِ الضُّعفاء المُستَضعَفِين، فقَالَ: «لَئِن كُنتَ أَغضَبْتَهُم لَقَد أَغْضَبْتَ رَبَّكَ».
«لَئِن كُنْتَ أَغْضَبْتَهُم»: وهَذَا قَسَمٌ مِنهُ (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ)، وتَقدِيرُ الكلامِ: وَاللهِ لَئِن كُنتَ أَغضَبْتَهُم لَقَد أَغْضَبْتَ رَبَّكَ[4].
إِغضَابُ هؤلاءِ الضُّعفاء إِغضَابٌ لِلمَولى سُبحانه وتعالى، لأَنَّهُم أَولياؤُهُ، وقد جاءَ في الحديث القُدسِيّ: «مَنْ عَادَى لِي وَليًّا فقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ»، فَلاَ بُدَّ مِن احتِرَامِهِم، والبُعدِ عَمَّا يُؤذِيهِم ويُسِيءُ إليهِم ويُغضِبُهم، ولِذا قالَ (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ) كَما في حديثِ أبي الدَّرداءِ عُوَيمِرٍ (رضي الله عنه) عندَ أبي داود بإسنادٍ جيِّد، قالَ (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ): «أَبْغُونِي الضُّعَفَاءَ، فَإِنَّمَا تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُم»[5].
«أَبْغُونِي الضُّعَفَاءَ»: اعرِفُوا لهُم قَدرَهُم، واعرِفُوا لهُم وَجَاهَتَهُم، (جَاهُهُم عِندَ اللهِ عَظِيمٌ)، احترِمُوهُم، لا تَحتقِرُوهُم، إِيَّاكُم والإِساءةَ إِلَيهِم، إِيَّاكُم وإِغضَابَهُم، رَاعُوا قُلُوبَهُم وخَوَاطِرَهُم.
هؤلاءِ الضُّعفاء هُمُ الَّذين أمرَ اللهُ جَلَّ وعلا نَبيَّهُ محمَّدًا (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ) أَن يُجَالِسَهُم وأَن يَحبِسَ نَفسَهُ مَعَهُم.
قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الكهف/28]. هذه الآيةُ الكريمةُ نَزَلَت في فَضلِ ضُعفاءِ المُسلمين، فيها تَسلِيَةٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لهُم، فيها تَسلِيَةٌ لمَن قَدَّرَ اللهُ عَلَيهِم أَن يَكُونُوا ضُعفاءَ، ضُعفاءَ في أَبدانِهِم (لَيست لهُم القُوَّة البدنيَّة) أو ضُعفاء في أموالهم (فَهُم فُقرَاء)، أو ضُعفاء في جَاهِهِم ومَنَاصِبِهم (مَدفُوعُون على الأبواب، لَيسَت لهُم المَنَاصِبُ العَالِيَة، ولا المكانة المَرمُوقَة في المجتمع، لَيسَت لهُم وجَاهَةٌ عِندَ النَّاس، إِذَا قَالُوا لم يُسمَع لقَولِهِم، وإذا نَطَقُوا لم يُلتَفَت لكلامِهِم، وإذا شَفَعُوا لم يُشفَع لهُم، لأَنَّهُم ضُعفاء، وهكذا سَائِرُ أَنواعِ الضَّعف مِمَّا يَعُدُّهُ النَّاسُ ضَعفًا، فإِنَّ اللهَ جَلَّ وعلا وإِن قَدَّرَ عَليهِم بحِكمَتِهِ أَن يَكُونُوا ضُعفاء، لكِنَّهُم أقوياء عندَ اللهِ جَلَّ وعلا، أَقويَاءُ يُحِبُّهُم اللهُ ويُكرِمُهُم، ويُنزِلُهُم المنازِلَ العَالِيَةَ، يَغضَبُ لغَضَبِهِم، ويَنتصِرُ لهُم، ويُدَافِعُ عَنهُم، وهذا هُوَ المِهِمّ، المُهِمُّ – يا عبدَ الله- أن تَكُونَ قَوِيًّا عِندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أَن تَكُونَ وَجِيهًا عندَهُ سُبحانه، أَن تَكُونَ ذَا مَنصِبٍ وشَرَفٍ يُكرِمُكَ اللهُ بِهِ.
يُسَلِّي اللهُ عَزَّ وجَلَّ هؤلاءِ الضُّعفاء مِن أَولِيَائِهِ، ويَكشِفُ عَن مَنزلَتِهِم عِندَهُ، فيُخَاطِبُ نبيَّهُ وخَلِيلَهُ محمّدًا (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ)، آمِرًا لهُ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾، أي: يَا محمّد، اصبِر نفسَكَ، احبِسْهَا مع هؤُلاء، ﴿مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾، الَّذِين يَدعُونَ اللهَ بالغَداةِ (أوَّل النَّهار) والعَشِيّ (آخر النَّهار)، ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾: يَعبُدُون ربَّهُم، والدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ، وأَشرَفُ العِبادَاتِ بَعدَ الشَّهادتينِ: الصَّلاة، هؤلاء الضُّعفاء يَتَقَرَّبُونَ إلى اللهِ بأَفضلِ الأعمالِ عندهُ وهُوَ الدُّعاء، قالَ (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ): «أَفضَلُ العِبَادَةِ الدُّعَاء»[6]. هؤُلاء الضُّعفاء مُلاَزِمُونَ لعِبادَةِ اللهِ، مُدَاوِمُونَ على طَاعَتِهِ (آنَاءَ اللَّيلِ وأَطرَافَ النَّهارِ) ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، هذا هُوَ الإِخلاص، ففِيهِ تَنبِيهٌ على الإِخلاص، وأَنَّهُ بسَبَبِ إِخلاصِهِم رَفَعَ اللهُ قَدرَهُم وأَعْلَى مَكَانَتَهُم، فكُلَّمَا كانَ العَبدُ في عَمَلِهِ أَخْلَصَ، كَانَ أَرضَى للهِ.
وقَد جَاءَ في السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ مَزِيدُ بَيَانٍ لمَكَانَةِ الضُّعفاءِ مِن هذهِ الأُمَّةِ وعَظِيمِ فَضلِهِم، تَأكِيدًا للمَعنى الَّذِي جَاءَت بِهِ هذهِ الآيَةُ الكريمة.
فرَوَى النَّسائيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن مُصعَبِ بنِ سَعْدٍ قالَ: رَأَى سَعدٌ (رضي اللهُ عنه) أَنَّ لَهُ فَضلاً عَلَى مَن دُونَهُ مِن أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ) (رَأَى أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَيهِم بسَبَبِ مَالِهِ أَو بسَبَبِ شَجَاعَتِهِ أَو غير ذلك)، فقال لَهُ رَسولُ اللهِ (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ): «إِنَّمَا تُنْصَرُ هَذِهِ الأُمَّةُ بضُعَفَائِهَا (أو/ إِنَّمَا نَصْرُ اللهِ هَذِهِ الأُمَّةَ بضَعِيفِهَا)؛ بدَعوَتِهِم وصَلاَتهِم وإِخلاَصِهِم)» [7].
وتَأَمَّلُوا – عِبادَ اللهِ- في هذا الحديثِ مع استِحضارِ ما جاءَ في الآيَةِ السَّابقةِ:
قَالَ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾، يُقَابِلُها قَولُهُ (صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ): «إِنَّمَا تُنْصَرُ هَذِهِ الأُمَّةُ بضُعَفَائِهَا؛ بدَعْوَتِهِم وصَلاَتِهِم». وقَولُهُ تعالى: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، يُقَابِلُه: «وَإِخلاَصِهِم»، لاَ يُرِيدُونَ عَرَضًا مِن الدُّنيا، إِنَّمَا يُرِيدُونَ وَجهَ اللهِ، لذا تَرَكُوا الأَموالَ والأَولادَ والأهلَ، ابتغاءَ وجهِ اللهِ، ضَحَّوا بأَنفُسِهِم ونَالَهُم مِن الأَذَى مَا نَالَهُم وحُرِمُوا أموالَهُم، لا لشَيءٍ؛ إلاَّ لتَمَسُّكِهِم بدِينِهِم، وإِيثَارِهِم مَرضاةَ اللهِ على مَتَاعِ الدُّنيَا الزَّائِل، ضَعْفٌ ومَسْكَنَةٌ وفَقْرٌ وصُعُوبَةُ عَيْشٍ، جُوعٌ وعُرْيٌ، وهُم ثَابِتُون صَامِدُون، مُدَاوِمُون على العِبادَةِ، صَابِرُون، فكَانُوا حَقًّا أَولياءَ اللهِ، إِذَا لم يَنصُرهُم أَحَدٌ مِنَ الخَلقِ، فاللهُ نَاصِرُهُم، وهُوَ وليُّهُم، إِذَا لم يَغضَب لهُم أَحَدٌ، غَضِبَ اللهُ لهُم، مَن عَادَاهُم حَاربَهُ اللهُ. أَفَبَعدَ هذهِ المَنزلَةِ مَنزِلَةٌ؟ أَبَعدَ هذا المنصِب والجَاهِ، يَتَفَاخَرُ أَحَدٌ بجَاهِهِ ومَنصِبِهِ؟
الأُمَّةُ تُنصَرُ بسَبَبِهِم، الأُمَّةُ تُرزَقُ ببَرَكَتِهِم، فمَا الَّّذِي رَفَعَهُم وقَرَّبَ منزلَهُم، إنَّها المُدَاوَمَةُ على العبادةِ والطَّاعَةِ، مع الإخلاصِ، واللُّجوءِ إلى اللهِ والتَّضرُّعِ إليهِ سبحانَهُ، مع الذِّلَّةِ والافتِقَار.
لم يُسِىء أَبُو بَكرٍ إلى هؤلاءِ الضُّعفاء (سَلمان وصُهيب وبلال)، ولاَ عنَّفَهُم، وإنَّما كان مِنهُ لَومٌ وعِتَابٌ عَليهِم، وكان لَهُ في ذلك وِجهَةُ نَظَرٍ، ولا يَشُكُّ أَحدٌ أَنَّهُ مَا أَرَادَ احتِقارَهُم ومَا أَرَادَ الإِساءةَ إليهِم، زِيادةً على أَنَّ جميعَ الصَّحابةِ مُعترِفُون بفَضلِ أبي بكرٍ عليهِم، مُتَّفِقُون على عَظِيمِ مَنزِلتِهِ عندَ اللهِ وعندَ رسولِهِ، فكانَ أحبَّ النَّاسِ إليهِم بعدَ رسولِ اللهِ (صلّى الله عليهِ وسلَّمَ).
لمَّا سمِعَ أُولئك الضُّعفاءُ عِتَابَ أبي بكرٍ لم يَغضبُوا، ولم يَتأثَّرُوا، ولم يَذهبُوا يَشكُونَهُ إلى رسولِ اللهِ، وإنَّما سَكَتُوا، ذَهبَ أبو بكرٍ إلى رسولِ اللهِ يُخبِرُهُ بما جَرَى، فإذا رسولُ اللهِ يُعاتِبُ أبا بكرٍ، قالَ: «يا أبا بكرٍ! لعلَّكَ أَغْضَبتَهُم؟ لَئِن كُنْتَ أَغْضَبْتَهُم لَقَد أَغْضَبْتَ رَبَّكَ». فمَاذا كانَ مَوقِف أَبي بكرٍ؟ ماذا صنعَ الصِّدِّيقُ (رضي اللهُ عنه) بعدما سمعَ مِن نبيِّهِ هذا التَّرهيب العظيم؟ خَافَ أبو بكرٍ على نفسِهِ وهُوَ هُوَ إيمانًا وتقوىً، ذهبَ أبو بكرٍ إلى (سلمان وصُهيبٍ وبِلالٍ)، إلى هؤلاءِ الضُّعفاء، ذَهبَ إِلَيهِم يَعتذِرُ لهُم ويَستَسْمِحُهُم، ويَأخُذُ بخَاطِرِهِم، ويَتَوَدَّدُ إِلَيهِم، أَلاَنَ لهُم الكلامَ بَعدَ أَن كَانَ مِنهُ ذاك اللَّومُ، قال لهُم: «آغْضَبْتُكُم؟ قَالُوا: لاَ، قال: يَا إِخوَتَاهُ آغْضَبْتُكُم؟ قَالُوا: لاَ، يَغفِرُ اللهُ لكَ يا أبا بكرٍ [يغفِرُ اللهُ لكَ يا أَخِي]».
«قالوا: لاَ»: لَم تُغضِبْنَا؛ لأَنَّهُم يَعلمُون أنَّ أبا بكرٍ لم يَحتقِرهُم ولاَ قَصَدَ إِيذَاءَهُم[8]، «قالوا: لاَ، يَغفِرُ اللهُ لكَ يَا أَخِي»، وضَبطَ بعضُ العُلماء قَولهُم: «يا أُخَيَّ»، بضَمِّ الهمزة، على التَّصغير، وهُوَ تصغيرُ تَحبيبٍ وتَرقِيقٍ ومُلاَطَفة[9]. وفي تَعبيرِهِم بهذه العبارة: «يَا أَخِي» في هَذَا المقام، إِشَارَةٌ وإِشعَارٌ بأنَّ الإخوانَ في اللهِ، لا يَتأثَّرُونَ بكلامِ بعضِهِم وإِن كان ظَاهِرُهُ فِيهِ شِدَّةٌ، وإن كان ممَّا يُغضِبُ، لأَنَّهُم يَحمِلُونَ كلامَ إخوانِهِم على أَحسَنِ المَحامل[10]، صَفَت قُلوبُهُم لإِخوانِهِم، وسَلِمَت صُدُورُهُم، فأَينَ المُسلِمُون مِن هذهِ الأَخلاقِ العَالِيَة، أَينَ الصَّفاءُ وسَلاَمَةُ الصَّدرِ؟
رَضِيَ اللهُ عَن الصِّدِّيق، ما أَشَدَّ وَرَعَهُ، وما أَعظمَ تَقوَاهُ، كيف كانَ حريصًا على أن يُبرِئَ ذِمَّتَهُ، ويَسْتَسْمِحَ إِخوانَهُ على ما صَدَرَ مِنهُ وهُوَ لا يَعتقد التَّرفُّع عليهِم.
وهكذا المُؤمِن الَّذِي يَخَافُ اللهَ إذا اعتدَى على أَخيهِ بقَولٍ أو فِعلٍ، أو سَبٍّ أو شَتمٍ، أو أَقَلَّ مِن ذلك، عَلَيهِ أن يَستَحِلَّهُ في الدُّنيا، ويُصلِحَ خَطَأَهُ في حَقِّ إِخوانِهِ، وأَن يَخفِضَ لهُم الجَنَاح، ويَذِلَّ لهُم، وإِن كان هُوَ أَرفَعَ مِنهُم قَدْرًا، وإِن كَانُوا أَقَلَّ مِنهُ مَنزِلَةً، لأَنَّ الإنسانَ إذا لم يَأخُذ حَقَّهُ في الدُّنيا، فإِنَّهُ يَأخُذُهُ يَومَ القِيَامَةِ، يَأخُذُهُ مِن أَشرَفِ شَيءٍ على الإِنسان: يَأخُذُهُ مِن الحَسَنَات، مِن الأَعمَالِ الصَّالِحَة الَّتِي هُو في حَاجَةٍ إِلَيها في ذلك المَكَان.
نَسألُ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أَن يُوقِظَ قُلوبَنا، ويُصلِحَ أَحوَالَنا، ويُحَسِّن أَخلاَقَنا، ويَرزُقَنا الإِخلاصَ في القَولِ والعَمَلِ، ويُوَفِّقَنَا للاِستِقَامَةِ على دِينِهِ والثَّبَاتِ عَلَيهِ، وأَن يَجَعلَنا مِن أَولِيَائِهِ وأَحبَابِهِ، وأَن يُحسِنَ عَاقِبَتَنَا، ويَختِمَ لنَا بالخَيرِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، والحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين.
[1] - «مرقاة المفاتيح» للقاريّ (18/86).
[2] - «دليل الفالحين» لابن علاّن (2/361).
[3] - «شرح النّوويّ على مسلمٍ»(16/66).
[4] - «دليل الفالحين» لابن علاّن (2/361).
[5] - «صحيح الجامع»(41).
[6] - «صحيح الجامع»(1122).
[7] - «صحيح التّرغيب والتَّرهيب»(3205).
[8] - «دليل الفالحين» لابن علاّن (2/363).
[9] - «شرح النّوويّ على مسلمٍ»(16/66).
[10] - «دليل الفالحين» لابن علاّن (2/363).
كتب المقال: المشرف العام