مِنْ فضائلِ عَلِيِّ بنِ أبي طالب(1)/ اليهودُ ونَكْثُ العُهُود!
أُلْقيت يوم الجمعة19محرم1430هـ الموافِق ليوم:16جانفي2009م.
سنتحدَّثُ اليومَ -بمعونة الله وتوفيقه-، عن أحدِ السابقين الأولين، ورابعِ الخلفاء الراشدين المهديين؛ هو: «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي»
«أبو الحسن والحسين»: «ابنُ عمِّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ».
«يقال إنه أول من أسلم[من الناس][والصحيح: أنه أول من أسلم] مِن الغِلمان، [وهو ابن سبعٍ][أو عشرِ سنين] كما أن خديجة أول من أسلمت من النساء، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الأحرار.
[صحَّ عن ابن عباس قال: «أولُ من صلَّى عليٌّ»، وعن زيد بن أرقم: «أول من صلَّى مع رسول الله عليّ»، وعلى كلٍّ: سواءٌ كان عليٌّ هو الذي أسلم أولاً، أو الصديق، فإنَّ: «الإيمان النافع المُتَعَدِّي نَفْعُهُ إلى الناس[هو] إيمان الصديق رضي الله عنه»، وأما عليٌّ فقد كان صغيرًا دون البلوغ؛
[قال الحافظ ابن كثير: «وإسلامه كان أنفع من إسلام مَنْ تَقَدَّمَ ذكرُهُمْ؛ إذ كان صدرًا مُعَظَّمًا، ورئيسًا في قريش مكرمًا، وصاحبَ مال، وداعيةً إلى الإسلام»] [1]
وكان سبب إسلام عليٍّ صغيرًا أنه كان في كفالة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لأنه كان قد أصابتهم سنة مجاعة، فأخذه من أبيه، فكان عنده[ رُبِّيَ في حجر النبيِّ (صلى الله عليه وسلم)]، فلما بعثه الله بالحق آمنت خديجة وأهلُ البيت ومن جملتهم علي» [2].
ـ «قال محمد بن كعب القرظي: أول من آمن من النساء خديجة وأول رجلين آمنا أبو بكر وعلي ولكن كان أبو بكر يظهر إيمانه وعليٌّ يكتم إيمانه، [قال الحافظ ابن كثير: يعني خوفًا من أبيه، ثم أمره أبوه بمتابعة ابن عمه ونصرته].
ـ وهاجر عليٌّ بعد خروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مكة وكان قد أمره بقضاء ديونه ورد ودائعه، ثم يلحق به، فامتثل ما أمره به» [3]
ـ «ولبس ثوبه ونام مكانه وكان المشركون قصدوا قتل النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) فلما أصبحوا رأوه فقالوا: أين صاحبك؟»[4]
ـ «هَاجَرَ، وآخَى النَّبيَّ (صلى الله عليه وسلم) بينه وبين سهل بن حنيف»[5]
ـ وذكرَ غيرُهُ: أنه «لما آخى النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) بين أصحابه قال له: «أنتَ أخِي»»[6]
ـ «وكان قد اشتهر بالفُروسية والشَّجاعة والإِقدام» [7]
ـ «وقد شهد عليٌّ بدرًا وكانت له اليد البيضاء فيها، بارز يومئذ فغلب وظهر وفيه وفي عمه حمزة وابن عمه عبيدة بن الحارث وخصومهم الثلاثة-عتبة وشيبة والوليد بن عتبة-نزل قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾[الحج:19]الآية.
وصحَّ عن عليٍّ نفسِهِ؛ قال: «قال لي النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) ولأبي بكر يوم بدر: «مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل؛ وإسرافيل ملكٌ عظيم يشهد القتال، أو قال: يشهد الصف» »[8]
وصحَّ عن: الحسن بن علي قام فخطب الناس، فقال: «يا أيها الناس! لقد فارقكم أمسِ رجلٌ ما سبقه الأولون، ولا يُدركه الآخرون، لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبعثه البعث فيعطيه الراية، فما يرجع حتى يبعث الله عليه: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، ما ترك بيضاء ولا صفراء؛ إلا سبع مئة درهم، فضلت من عطائه، أراد أن يشتري بها خادمًا» [9].
ـ «كان اللواء بيده في أكثر المشاهد» [10].
ـ «وشهد عليُّ أُحُدًا وكان على الميمنة ومعه الراية بعد مصعب بن عمير... وقد قاتل عليٌّ يوم أحد قتالاً شديدًا، وقتل خلقا كثيرًا من المشركين، وغسل عن وجه النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) الدَّم الَّذي كان أصابهُ مِن الجراح حين شُجَّ في وجهه وكسرت رباعيته.
وشهد يوم الخندق فقتل يومئذ فارسَ العرب، وأحد شجعانهم المشاهير: عمرو بن عبد ودٍّ العامري».
«وشهد الحديبية وبيعة الرضوان وشهد خيبر وكانت له بها مواقفُ هائلة، ومشاهد طائفة،....وشهد الفتح وحنينًا والطائف، وقاتل في هذه المشاهد قتالاً كثيرًا، واعتمر من الجِعرَّانة مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولما خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى تبوك واستخلفه على المدينة، قال له: يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: «ألا ترضى أن تكون مِنِّي بمنزلة هارون من موسى غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي» »: «أي: لا ينبغي أن أذهب إلاَّ وأنت خليفتي» [11].
الخطبة الثانية:
سنأتي هنا على ذكر ما كان من قتالِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لليهودِ يومَ خيبر:
«لما أجلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يهود بني النضير من المدينة... فذهب عامتهم إلى خيبر وفيهم حُيَيُّ بن أخطب وبنو أبي الحُقَيْقِ وكانوا ذَوِي أموال وشرف في قومهم»[12] .
«كان علي بن أبي طالب تخلَّف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في خيبر، وكان رَمِدًا فقال أنا أتخلف عن النبي (صلى الله عليه وسلم)؟ فلحق به فلما بِتْنَا الليلة التي فتحت خيبر قال: «لأُعْطِيَنَّ الراية غدًا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله[يفتح الله على يديه][ليس بفرَّارٍ[13]]». [فقال عمر: ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم] فبات الناس يذكرون أيُّهُمْ يُعْطاها، فدعا عليًا-وكان أَرْمَد-فدعا له، وبصق في عينه فلم يرمد بعدها، فبرأ وأعطاه الراية، ففتح الله على يديه، وقتل مرحبًا اليهودي[فارس يهود وشجعانهم].
[روى البخاري:] أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتى خيبر ليلاً وكان إذا أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومَكَاتِلِهِمْ (أي: آلات العمل والزرع) فلما رأوه [أَدْبَرُوا هربًا، ونكصوا فرجعوا إلى حِصْنِهِمْ] قالوا: محمدٌ والله، محمدٌ والخميس (وهو: الجيش) فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «الله أكبر خَرِبَتْ خَيْبَر، إنا إذا نزلنا بساحةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المنذَرِين» [14]
ـ أما عن قتال عليّ؛ حاملِ الراية؛ فقد: «أتى مدينة خيبر وخرج مرحب صاحبُ الحِصْنِ وعليه مِغْفَر يماني وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحبُ شاكٍ سلاحي بطلٌ مجربُ».
«فقال عليّ:
أنا الذي سمتني أُمِّي حَيْدَرَهْ كليثِ غاباتٍ شديد القسوره[أو: كريه المنظره]
أكيلكم بالصاع كيل السندره ...... » (أي: أقتلكم قتالاً واسعًا ذَرِيعًا)
«فضرب مرحبًا ففلق رأسه فقتله وكان الفتح»، فتحت حصون خيبر واحدًا بعد آخر، «وتَدَنَّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتحها حصنًا حصنًا...» [وقتل النبي (صلى الله عليه وسلم) المقاتلة وسبى الذرية]، «انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسُّلالم وكان آخر حصون خيبر افتتاحًا فحاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بضع عشرة ليلة».
ـ عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والنخل والزرع، فصالحوه على أن يُجْلوا منها؛ ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصفراء والبيضاء (أي: الذهب والفضة)، ويخرجون منها، فاشترط عليهم أن لا يكتموا شيئا، ولا يُغَيِّبُوا شيئًا، فإن فعلوا ذلك فلا ذمة لهم ولا عصمة، فَغَيَّبُوا مَسَكًا (أي: وعاء من جلد) فيه مالٌ وحُلِيٌّ لحُيَي بن أَخْطَب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمّ حُيَيٍّ: «ما فعل مَسَكُ حُيَيّ الذي جاء به من النضير؟». فقال: «أذهبته النفقات والحروب! (وكَذَبَ اليهودي!، فأيُّ نفقاتٍ! وهم البخلاء!، وأيُّ حروبٍ!! وهم الجُبناء!!) فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «العهد قريب، والمال أكثر من ذلك». فدفعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الزبير بن العوام؛ فَمَسَّهُ بعذاب (أي: لعلَّهُ يعترف!)، وقد كان حُيَيّ قبل ذلك قد دخل خربة، فقال: قد رأيت حُيَيًّا يطوف في خربة ها هنا، فذهبوا فطافوا؛ فوجدوا المَسَكَ في الخربة، فقتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ابْنَيْ أبي حُقَيقٍ...، وسبى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم؛ للنَّكْثِ الذي نَكَثُوا، وأراد أن يُجْلِيهِمْ منها.
[قال الحافظ ابن كثير: «ولهذا لما كتموا وكذبوا وأخفوا ذلك المسَكَ الذي كان فيه أموال جزيلة تَبَيَّنَ أنه لا عهد لهُم فقتل ابني أبي الحُقَيق وطائفة من أهله بسبب نقض العهود منهم والمواثيق» اهـ [15] ] (فلمَّا سُقِطَ في أيديهم!
فقالوا: يا محمد! دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها[في بعض الروايات: قالوا: نحن أعلم بها منكُم وأَعْمَرُ لها [16] ]، ولم يكن لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا لأصحابه غِلمان يقومون عليها، وكانوا لا يتفرَّغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم (خيبر)؛ على أن لهم الشَّطر من كل نخل وزرع وشجر، وما بدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم). (معناه-كما في بعض الروايات-: «فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على النِّصف على أنَّا إذا شئنا أن نُخرجكم أخرجناكُم»[17] ]
وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كلَّ عام يخرصها عليهم، ثم يُضَمِّنُهُمْ الشَّطْرَ، قال: فَشَكَوْا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شِدَّةَ خَرْصِهِ (وكذبُوا-والله!-)، وأرادوا أن يَرشوه فقال: يا أعداء الله! أتُطعموني السُّحْتَ؟! والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الناس إلي، ولأنتم أبغض إليَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ من القردة والخنازير، ولا يحملني بُغضي إياكم، وحُبِّي إِيَّاُه على أن لا أعدل عليكم! فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
(نعم! صدق يهود!...وهم الكَذَبَةُ، بالعدل: قامت السموات والأرض)
...... فلما كان زمن عمر بن الخطاب غَشُّوا المسلمين، وألقوا ابن عمر من فوق بيت،
(لمَّا طفَح الكيلُ، وما ازدادت يهودُ إلاَّ طغيانًا، وإمعانًا في المكر والخديعة، جاء قرارُ أمير المؤمنين عمر: الحاسم!)
فقال عمر بن الخطاب: من كان له سهمٌ مِن خيبر (يُرِيدُ المقاتلين يوم خيبر والغانمين)؛ فليحضر حتى نقسمها بينهم، فقسمها عمر بينهم، فقال رئيسهم: لا تُخْرِجْنَا، دعنا نكون فيها كما أقرَّنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر.
(إنه مَكْرُ يهود! مرة أخرى، ومحاولةٌ أخيرة منهم! لخداع المسلمين، عَمَدَ رئيس اليهود إلى هذه الحيلة؛ لا تفعل يا عمر ما لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)وخليفتُهُ الأول، دَعْنَا كما أَقَرَّانَا!! ولكن هيهات هيهات! ليس مثلُ هذا الخبّ، مَنْ يخدعُ عمر!!)
فقال عمر لرئيسهم: أتراني سقط عنِّي قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لك: «كيف بك إذا أفضت بك راحلتُك نحو الشَّام يومًا ثم يومًا»؟! (يعني: لا زلتُ أذكر جيدًا ما قاله لك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومَهَا، وأنه سيأتي اليومُ الذي تُخْرَجُونَ منها، كما نَعَتَ لَكَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وها هو قد جاء أوانُهُ!، فأخرجهم عمر)
وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية. [18] وفي رواية لأبي داود: أن عمر قال: «أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عاملَ يهود خيبر على أن يخرجهم إذا شاء فمن كان له مالٌ فليَلحق بي فإني مخرجٌ يهود»[19]
هكذا كان حَزْمُ عُمَرَ (رضي الله عنه) مع هؤلاء الفَجَرَة الغَدَرَة والغشَّاشِين.
وهذا قَبَسٌ من سيرة المسلمين الأوَّلين، و(عَيِّنَةٌ) من تاريخ الإسلامِ مع يهود، الذين مع عرفوا وفاءً بعهد، ولا رعايةً لِذِمَّةٍ، ولا قيامًا بنصيحة، وإنما هو المكرُ والخيانة والخديعة، فحقٌّ على هؤلاء أن يُقاتَلُوا كما قاتلهم المسلمون الأولون، وأن يُقَتَّلُوا وتُسْبَى نساؤُهُمْ وذراريهم، وتُقْسَمَ أموالهم.
فنسألُ اللهَ تعالى أن يُهَيِّءَ ويُصْلِحَ من المسلمين رجالاً شُجْعَانًا وأبطالا، يُرُونَا في (يهود) تلكم الأيام الخالِيَة؛ التي كانت عليهم ذُلاًّ وصَغَارًا، تُرهبهم قوة المسلمين، ويُرعبهم خروجهم، قبل أن تُغِيرَ عليهم خيولهم، وتحصدهم سيوفهم، وما ذلك على الله بعزيز، واللهُ على كلِّ شيءٍ قدير.
[1] - «صحيح السيرة النبوية» للشيخ الألباني(ص:117-119).
[2] - «البداية» للحافظ ابن كثير(7/179)-مع زيادات-.
[3] - «البداية» للحافظ ابن كثير(7/179).
[4] - «الإصابة» للحافظ ابن حجر(2/502).
[5] - «البداية» للحافظ ابن كثير(7/179).
[6] - «الإصابة» (2/501).
[7] - «الإصابة» (2/501).
[8] - «الصحيحة» (رقم:3241).
[9] - «صحيح الموارد» (1855).
[10] - «الإصابة» (2/501).
[11] - «الإصابة» (2/502).
[12] - «البداية» (4/158).
[13] - «صحيح سنن ابن ماجه» (رقم:95).
[14] - «البداية» (4/150).
[15] - «البداية» (4/161).
[16] - «البداية» (4/160).
[17] - «البداية» (4/160).
[18] - «صحيح موارد الظمآن» (رقم:1415).
[19] - «البداية» (4/162).