أُلقيت يوم الجمعة12المحرم1430هـ الموافِق لـ:9جانفي2009م.
عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ [وفي لفظ: في ضعفائكم][وفي آخر: في الضعفاء]؛ فإنكم إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ»
«ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ»، أي: اطلبوا لي، أو أعينوني على طلب ضعفائكم، و«الضعفاء» من يستضعفهم الناس لفقرهم ورثاثتهم، إنما «تنصرون»، أي: تُعانون على عدوكم ويُدفع عنكم البلاء والأذى «بضعفائكم»[1]، ليس ذلك بسبب كونهم بين أظهركم، ولا بوجودهم بذواتهم وأجسامهم بينكم، وإنما «ببركة دعائهم»، ولذا بوّب بعض أئمة الحديث على هذا بقوله: [باب الاستعانة بدعاء الضعفاء]، وذلك لأن «الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء وأكثر خشوعا في العبادة لخلاء قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا»[2]، ولأن «الضعيف إذا رأى عجزه وعدم قوته تبرأ عن الحول والقوة بإخلاصٍ واستعانَ بالله فكانت له الغلبة و﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[البقرة:249] بخلاف القويّ فإنه يظنّ أنه إنما يغلب الرجال بقوته فتعجبه نفسه غالبًا وذلك سببٌ للخذلان، كما أخبر الله تعالى عن بعض من شهد وقعة حنين»[3]
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾[التوبة:25]، وقد بيّن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) الأسباب التي جعلت هذه الأمة تُنصر بضعفائهم، زيادةً على ما تَقَدَّمَ منها وهو الدعاء!
عن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه): أنه ظنَّ أنَّ له فضلاً (أي: في المغنم) على من دونه من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم، وصلاتهم وإخلاصهم»[4].
ظن سعدٌ أن له فضلاً ورُجْحَانًا على غيره بسبب شجاعته وإقدامه وتقدُّمِهِ في الصفوف ونحو ذلك، فقال كما في رواية مرسلة: «يا رسول الله أرأيت رجلاً يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبيه كنصيب غيره؟ قال (صلى الله عليه وسلم): «إنما نصر الله هذه الأمة بضَعَفَتِهِمْ؛ بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم»[5]»، فدفع عنه هذا التَّوَهُّمَ، وهو: إِنْ كان ثمَّتَ ترجيحٌ وتفضيلٌ، فإنه لا يُرجح ولا يُفضل المقاتلون بعضُهم على بعضٍ بفضل الشجاعة والإقدام، بل يُرَجَّحُ ويُفَضَّلُ الضَّعَفَةُ ويُقَدَّمون بفضل دعائهم وإخلاصهم!
وفي طَيِِّ هذا الحديث إشارتان؛ أولها:
1ـ أنّ أسباب النصر ليست فيما يظهر للناس في العُدة والعدد والآلات، وإنما سبب النصر الحقيقي هو تعلق القلوب بالله وحده!؛ «فنُصرة هذه الأمة إنما هي بضعفائها»؛ لأنهم أول من يتوفرُ فيهم سبب النصر، ويوجدُ بين جَنَبَاتِ قلوبهم؛ إنه خلاءُ قلوبهم من التعلق بأحدٍ غير الله عز وجل!، «ولأنهم لانكسار خواطرهم: دعاؤهم أقربُ إجابةً»[6]«أُجِيبَ دعاؤُهم وزَكَتْ أعمالُهُمْ»[7] لشدة إخلاصهم.
هذا وإن الله «أمر بالعدة للعدو وأخذه بالقوة»، لكنه أخبر بعد ذلك: إعلامًا للناس أن تتوجه قلوبهم إلى السبب الحقيقي للنصر؛ وهو أن: «يعلموا ويوقنوا أن النصر من عند الله»، وأنه إنما يلقيه على يد المؤمنين المخلصين العابدين الخاشعين، وفي مقدمة هؤلاء الضَّعَفَةُ المُسْتَضْعَفُونَ!
... فهذا هو سَبَبُ النَّصْرِ على الحقيقة: امتلاءُ القلوب بالتوحيد والإيمان، قُوَّةُ القلب وجَمْعِيَّتُهُ على الالتجاء إليه والاسْتِنْصَارِ به!، «وأن الأمر كُلَّهُ لله، يُدَبِّرُهُ كيف يشاء».
2ـ الإشارة الثانية: أنَّ مِنْ أَجَلّ أوْ أَجَلُّ مظاهر تَعَلُّقِ القلوب بالله؛ هي: الإخلاص، والصلاة، والدعاء.
أما الدعاء؛ فهو كما قال (صلى الله عليه وسلم): «الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[غافر:60]»، وقال (صلى الله عليه وسلم): «أفضل العبادة الدعاء... »، وقال (صلى الله عليه وسلم): «ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء»، وكان الدعاء روحَ العبادة ولُبَّهَا وأساسها؛ لأمور؛
«منها: أن الدعاء فيه التضرعُ إلى الله وإظهار الضعف والحاجة إليه سبحانه.
ومنها: أن العبادة كلما كان القلب فيها أخشع والفكرُ فيها حاضرًا فهي أفضل وأكملُ، والدعاء أقرب العبادات إلى حصول هذا المقصود، فإن حاجة العبد تدفعه إلى الخشوع وحضور القلب.
ومنها: أن الدعاء ملازم للتوكل والاستعانة بالله؛ فإن التوكل هو الاعتماد بالقلب على الله والثقة به في حصول المحبوبات واندفاع المكروهات، والدعاء يُقَوِّيهِ، بل يعبّر عنه و يصرح به، فإن الداعي يعلم ضرورته التامة إلى الله، وأن أموره جميعها بيده، فيطلبها من ربه راجيًا له واثقًا به، وهذا هو روح العبادة»[8]
فعلينا معاشر المسلمين!: إن أردنا نصرا وغلبة على العدو وعونا من الله عليهم، أن نُديم الدعاء بإخلاص وتضرع واستكانةٍ، ورجاء وثقة وتوكل على الله تعالى...
أما الصلاة؛ فهي الركن الأعظم بعد التوحيد، وأعظم العبادة بعد الإيمان، وهي عمادُ الدين، ويقيمه العباد تعظيمًا لربهم، وتكبيرًا لهُ، وفيها دلالةٌ على تعلق القلوب بربِّها، وفزعها عند المرهوبات إليه، «كان الأنبياء إذا فزعوا؛ فزعوا إلى الصلاة»[9]
فعلينا معاشر المسلمين إن ابتغينا نصرا وغلبة على الأعداء، وعونا من الله لنا عليهم، أن نقيم هذه الصلاة، ولتمتلئ قلوبنا بها تعظيما وإيمانا، ولتكن لنا مفزعًا وملتجأً وحمى نحتمي به، وحصنًا نأوي إليهِ....
وأما الإخلاص؛ فهو الإيمان...ما الإيمانُ إلاَّ الإخلاص؛ عن أبي فراس-رجل من أسلم-، قال: نادى رجل فقال: يا رسول الله! ما الإيمان! قال: «الإخلاصُ»[10].
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم [وأشار بأصابعه إلى صدره]،[وأعمالكم] ». رواه مسلم[11]
فإذا أردنا من الله نصرة وتأييدًا وعونًا على الأعداء!، فعلينا أن نعتصم بالإخلاص؛ إخلاص الدين لله، الإخلاص في جميع الأعمال، وفي كلّ الأمور، ولا يكون في أعمالنا شائبةُ للمخلوقين، أو تعلق أو رجاءٌ، فيمن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ولا تُغْنِي نُصْرَتُهُ شيئًا...
أمَّا إذا كانت الأمة لا تُخلص لله في أعمالها، وتُشرك بالله غيرَهُ في قصدها ورجائها، فقد حقَّ عليها الذلُّ والصَّغَار، والحقارة والخسارة والبَوَار!، واللهُ يَتَخَلَّى عنها، ويَكِلُهَا إلى أنفسها وإلى الذي أَشْركَتْ!، عن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما)، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من سَمَّعَ الناسَ بعَمَلِهِ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ مَسَامِعَ خَلْقِهِ، وصَغَّرَهُ وحَقَّرَهُ»[12]، هذا هو جزاء المُرَائِي، هذه هي عاقبة من يشركُ بالله؛ الشرك الأصغر: إنه التَّحقير والتَّصغيرُ من الله!
فأقيموا -أيها المسلمون!- دين الله في أنفسكم!، وحَقِّقُوا توحيده وحَقِّقُوا إيمانكم، وقَوُّوا صِلَتَكُمْ باللهِ رَبِّكُمْ؛ بدعائه وإرادة وجهه، وإدامةِ ذكره، تُنصروا وتُعَانُوا....
الخطبة الثانية:
معاشر المسلمين!... عرفنا أن أسباب الخذلان، والذلّ والصَّغار والخسران، في ترك التوحيد، وعدم التحقق بالإيمان، وتضييعِ العبادة والاستخفافِ بها وعدمِ رعايتها؛ واعلموا أنه من أسباب الهزيمة كذلك: تركُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ والمداهنة فيهما، فهذا هو الذي جعل المسلمين، تَحِلُّ بهم العقوبات، ويُسَلَّطُ عليهم الأعداء، و يَنْزِلُ بهم العذاب والبلاء!؛
عن زينب بنت جحش (أم المؤمنين) (رضي الله عنها): أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دخل عليها فزعًا يقول: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب مِنْ شَرٍّ قد اقترب، فُتِحَ اليوم من رَدْمِ يأْجوجَ ومأْجوجَ مثلُ هذه». وحَلَّقَ بأصْبعَيْهِ الإبهامِ والتي تليها. فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون. قال: «نعم؛ إذا كثر الخبث»[13]، والمعنى يكثر الخبث: إذا ترك الصالحون، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وداهنوا فيهما، يوشك الله أن يَعُمَّ اللهُ الجميع بعقابه، ويُحِلُّ عليهم سخطه وعذابه!، فهل نعتبر؟!
وعن حذيفة (رضي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «والذي نفسي بيده؛ لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر؛ أو لَيُوشِكَنَّ أَنْ يبعثَ اللهُ عليكم عقابًا منه، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فلا يستجيب لكم»[14]
وعن عائشة (رضي الله عنها)، قالت: دخل النبي (صلى الله عليه وسلم) فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كلَّمَ أحدًا، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «يا أيها الناس! إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم... »[15] وفي الحديث زيادةٌ ضعيفة، نذكرها مِنْ باب الاسْتِئناس والاسْتِشهاد، ولوجود ما يَدُلُّ عليها، ولاندراجها في ما قبلها!، قال: «...وتسألوني فلا أعطيكم، وتَسْتَنْصِرُونِي فَلاَ أَنْصُرُكُمْ، فما زاد عليهن حتى نزل».
معاشر المسلمين!... يقول الله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾[الفرقان:77 ]، والمعنى: «لا يبالي بكم ولا يبقيكم إلا إذا عبدتموه وآمنتم به وحده، فالدعاء بمعنى العبادة»[16] ليس لنا عند الله أي وزن ولا قدر[17] ﴿لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾: لولا عبادتكم، لولا توحيدكم، «لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك، بيانه:
﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[العنكبوت:65]» [18]، فالله تعالى استجاب للمشركين وهم مُشركون، لأنهم أَخْلَصُوا في تلك الساعة دُعَاءَهُمْ!، نَفَعَهُمْ إخلاصُهم عند الشدَّةِ!،
فيا -أيها المسلمون!- قوموا بحقوق الله، وأعظمُهَا توحيدُهُ وإخلاصُ الدعاء له، لا تَدْعُوا أَحَدًا إلاَّ الله، ولا تطلبوا نصرًا ولا غَوْثًا ولاَ عَوْنًا إلاَّ مِنْهُ سُبحانه، فهو وحده المُرْتَجَى، وإليه وحده المُلْتَجَا، وقُومُوا أيضًا بحقوق عبادته وطاعته؛ أقيموا الفرائض وافعلوا الأوامر، وانتهوا عَمَّا نُهِيتُمْ عنه، وكُونُوا صالحين في أنفسكم!، ولا ينفعُكُمْ ذلك، حَتَّى تَكُونُوا مُصْلِحِينَ لِغَيْرِكُمْ، وسَاعِين في بَثِّ الصَّلاَحِ في أرضِكُمْ، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلاَّ فإنكم إنْ رفعتُم أَكُفَّكُمْ؛ تطلبون نَصْرًا أو تَرْجُونَ عَوْنًا، أو تَأْمَلُونَ دَفْعَ مَكْرُوهٍ، أو رَفْعَ بَلاءٍ؛ فإنه لا يُستجابُ لكم؛ «أيها الناس! إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم... ».
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعلم النَّافِع والعمل الصَّالح، أَقولُ قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
[1] - «فيض القدير» للمُنَاوي(1/109).
[2] - «الفتح» للحافظ ابن حجر(6/89).
[3] - «فيض القدير»(1/109).
[4] - «صحيح الترغيب»(رقم:7).
[5] - «الفتح»(6/89).
[6] - «تحفة الأحوذي» للشيخ المباركفوري(5/291).
[7] - «عون المعبود» للشيخ العظيم آبادي(7/184).
[8] - «فقه الأدعية والأذكار» للشيخ عبد الرزاق البدر(القسم الثاني)(ص:13).
[9] - «الصحيحة»(رقم:1061 ).
[10] - «صحيح الترغيب»(رقم:3).
[11] - «صحيح الترغيب»(رقم:19).
[12] - «صحيح الترغيب»(رقم:31).
[13] - «صحيح الترغيب» (رقم: 3349).
[14] - «صحيح الترغيب والترهيب»(رقم: 3351).
[15] - «صحيح الترغيب والترهيب»(رقم: 3367).
[16] - «تفسير» الجمال القاسمي(7/446).
[17] - انظر: «تفسير الحافظ ابن كثير»(5/174).
[18] - «تفسير"الإمام القرطبي»(13/85