أُلْقيت يوم الجمعة 4 محرم1430هـ الموافِق ليوم: 2 جانفي2009م.
قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾[المائدة:82]، قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره»: «ما ذاك إلا لأنَّ كفر اليهود عنادٌ وجحودٌ ومُبَاهَتَةٌ للحق، وغَمْطٌ للناس وتنقص بحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيرًا من الأنبياء حتى هموا بقتل الرسول (صلى الله عليه وسلم) غير مرة وسَمُّوهُ وسَحَرُوهُ، وأَلَّبُوا عليه أشباههم من المشركين-عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة-» اﻫ
عرفتم -عباد الله!-: ذلكم الحَدَثَ العظيم، الفظيع الشنيع؛ إنه قَتْلُ عثمان مظلومًا، دخل عليه الخوارج الثوّار داره، وذبحوه (رضي الله عنه وأرضاه)، وذكرنا لكم سببَ ذلكم الاعتداءِ عليه، ومنشأَه ، وخلاصةَ خبرهِ، وكان ذلكم الحَدَثُ أوّل فتنة في الإسلام، وأوَّل ما سُلَّ السيفُ على أمّة الإسلام، ومن ذلكم الحين، تلاحقت الفتن بالأُمَّةِ؛ الفتنةُ بعد الأخرى، وتَعَاصَفَتْ رياح الفوضى والخلاف، ومَاجَ الناسُ وهَاجُوا، والله المستعان!
قالت أم سليم لما سمعت بقتل عثمان: «رحمه الله، أما إنه لم يَحْلِبُوا بعده إلاَّ دمًا»، وعن الحسن قال: «لو كان قتل عثمان هدًى لاحْتَلَبَتْ به الأمّةُ لبنًا، ولكنه كان ضلالاً فاحْتَلَبَتْ به الأمة دمًا»[1]
عرفنا أن الذين ثاروا عليه هم الرَّعَاعُ والأعراب والطامعون في حطام الدنيا، والمُغَرَّرُ بهم، اشتكوا الضيق! من أمرائهم فنازعوا الخليفة عثمان في أمره، وأرادوا أن يخلعوه!...
هذا هو الذي يظهر في سببِ وقوع الفتنة، وأنها كانت لأجل متاع الدنيا، وأخذ الحقوق ورفع المظالم!-زعموا!-.
لكنَّ الذي سنتحدَّثُ عنه اليومَ ، ونكشف عن خباياه هو الدَّوْرُ اليهوديّ في هذه الفتنة العظيمة: خُبْثُ اليهود، ومكرُهم ودهاؤهم ونفاقهم ودَسُّهُمْ على الأمة وعلى خليفتها وعلى خيارها!
من أعظم ما أَجَّجَ الفتن، وأَذْكَى النار، وأَجْلَبَ الشرَّ والاضطراب والدَّمَار، ما كان من سَعْيِ اليهوديّ الخبيث: (عبد الله بن سبأ ويُكْنَى بابن السوداء)، (أظهر هذا اليهودي الإسلام ليُضِلَّ الناس)، صار يجوب البصرة والكوفة والشام وأخيرًا مصر؛ ومنها خرج أولئك الخوارج المصريون؛ قدموا المدينة، وحاصروا عثمان، حتى فَاجَؤُوا المسلمين بقتله!، كان لهذا اليهودي الخبيث بمكره ودهائه دورٌ في تَأْلِيبِهِمْ على الخليفة عثمان وتحريضهم عليه، حيث أظهر لهم التباكي على الإسلام! والتباكي على الأمة!، والتباكي على أموال المسلمين!، حتى نجحت مكيدته، وراجت دسائسُهُ أو سياسته الماكرة، ونفّذ تخطيطه، فوقعت الثورة على الخليفة ثم قَتْلُهُ!
... هكذا يسعى اليهود لحصول الفوضى والاضطراب والفتن في داخلِ بلاد الإسلام، وفي داخلِ مجتمع المسلمين الموحَّدِ،... هكذا يخترق اليهود صفوف المسلمين، فيجدون مِنْ ضعفاء العقول، ومن ضعفاء الدين، من يُنَفِّذُ دسائسهم، فَيُصَوَّرُ للناس أنها فتنٌ داخلية، وما يدرون أن وراءها أيادٍ أجنبية، ودسائسَ يهوديَّة!
لكن اليهود يعرفون كيف يستغلون الفُرَصَ، ويعرفون كيف يُحَرِّكُونَ الفتن التي تعصف بالأمة، وتُوهنها وتُضعفها وتُفشلها!
ـ كان لتلكم الفتنة اليهودية مظهران: مظهر ظاهرٌ بادٍ، ومظهرٌ مُبَطَّنٌ خافٍ، لم ينكشف إلاَّ بعد تَغَلْغُلِهِ!، ...المظهر الثاني من مظاهر كيد اليهود للأمة، وهو أخطر وأفظع...لئن كان الأول مظهرًا دنيويًّا، وإفسادًا ظاهريًّا، يقع على الأبدان والأنفس بالقتل والاعتداء، ويقع على الأموال؛ تُنْتَهَبْ، وعلى الأمن؛ يُخْتَرَقْ!
فإن الذي هو أخطر منهُ: أن يُفْسِدَ اليهودُ دينَ المسلمين، ويُفسدوا عقائدهم، ويُدخلوا عليهم من البدع الشنيعة، والمقالات الفظيعة، في أصل دينهم!... وأيُّ إفسادٍ هو أعظمُ من إفساد العقائد وإفساد الأديان، وإفساد القلوب؟!، تلك أعظم جرائم اليهود على الأمة!، وأخطرُ دسائسهم، وأشنعُ أفاعيلهم الخبيثة بنا!
لقد رَوَّجَ اليهودي الخبيث (ابن سبأ): عقيدتين خبيثتين فاسدتين، ما لبث أن تلَقَّفَهَا عنه الجهال!
إحداهما عقيدة الرَّجْعَة: وهي اعتقادُ أن عليًّا (رضي الله عنه) لا يموت، ولم يمت، وأنه سيرجع!، وجد اليهودي فيمن يَتَشَيَّعُونَ لعليٍّ (رضي الله عنه)، غفلةً، وضعفَ عقلٍ، «فصار يقول لهم: عجيبٌ ممن يقول برجعة المسيح ولا يقول برجعة محمد... »، «والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾[القصص:85]، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى»، «فيقبل منه الناس ذلك لأنهم من الجهلة... »، ثم قال لهم: «عليُّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) حيٌّ لم يمت ولا يموت، وأنه في السحاب، حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا (أي: ظلمًا)» [2]
ولما بلغ هذا اليهوديَّ قتلُ عليٍّ[بعد فتن وحروب واقتتال بين المسلمين!]، قال: «لو أتيتمونا بدماغه في سبعين صرّة ما صدَّقْنَا بموته ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَتْ جَوْرًا»[3]
ومن العقائد الفاسدة التي دسَّها اليهوديُّ في دين المسلمين: الوصية لعليٍّ؛ حيث تَسَرَّبَتْ هذه الدَّسِيسَةُ إلى مَنْ يَتَشَيَّعُونَ لعليٍّ، من الرافضة الإماميّة؛ قالوا: «إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نصَّ على علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه الخليفة بعده، وأن الصحابة بعده (رضي الله عنهم) اتفقوا على ظلمه، وعلى كتمان نصّ النبي (صلى الله عليه وسلم)... »[4]
وقال لهم اليهودي، و«جاءهم من قِبَلِ تعظيم نبيِّهِمْ ورفعة مقامه على سائر الأنبياء»: «عجبًا لكم أيها المسلمون أيكون فيكم أهلُ بيتِ نبيّكم يُقْصَوْنَ عن أمركم؟»، هَوَّلَ عليهم ونفخ فيهم استهجانَ واستقباحَ أن يُتْرَكَ آلُ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، ويُقْصَوْنَ عن أمر خلافته! [5]
وقال لهم: «محمد خاتم الأنبياء وعليّ خاتم الأوصياء، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يُجِزْ وصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ووَثَبَ على وَصِيِّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتناول أمر الأمة؟، ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهذا وصيُّ رسول الله، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدؤوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تَسْتَمِيلُوا الناسَ، وادعوهم إلى هذا الأمر».
وهكذا بَثَّ اليهوديُّ الخبيث دِعَايته، في الأمصار وأرسل دعاته واسْتفْسَدَ كثيرًا من الناس!، «وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بِكُتُبٍ يضعونها في عَيْبِ ولاتهم... وأوسعوا الأرض إذاعةً وهم يريدون غير ما يُظهرون، ويُسرُّون غير ما يُبْدون»[6]
ومن ذلك أنهم «زَوَّرُوا كتبًا على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان»[7].
إذن... فالتأليبُ والتحريضُ على الولاة والإعلان بعيوبهم، وإشهارُ سيئاتهم: بدعةٌ في الإسلام! حركتها أيادٍ يهوديّة، وإذا قَلَّبْنَا النظر في واقعنا المعاصر: كم سالت دماء، في بلاد المسلمين، وكم حصل من الخراب والدمار! ليس له من سَبَبٍ إلاَّ هذه البدعة التي سَنَّها اليهوديُّ والله المستعان، فهل يعتبرُ المسلمون!
الخطبة الثانية:
لم يكتف اليهودي بإثارة أصحاب المطامع الدنيوية من الرَّعاع والأعراب، بل أراد أن يَسْتَمِيلَ ويَجُرَّ «أصحاب النيات الحسنة والمقاصد الصحيحة»، لتنفيذ مخططاته!: «جاء إلى الشام وهو من الخبث والدهاء بحيث يَعْرِفُ مأتى الأمور، ويأتي إلى كلِّ شيء من بابه ويُفضي إلى كل رجل بما يغلب على ظنه أنه يوافقه، فهو إنما يجيء إلى الناس بدسائسه من الجانب الضعيف الذي يَأْنَسُهُ فيهم» [8]، «لقي[اليهودي] أبا ذر [صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان رجلا صالحا، وكان يرى رأيًا، ويذهب مذهبًا؛ حيث كان لا يرى الإمساك، ولا يميل إلى الاِدِّخار]، فقال: يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية [وكان معاويةُ أميرًا لعثمان على الشَّام] يقول: المال مال الله، ألا كل شيء لله، كأنه يريد أن يحتجبه دون المسلمين. فقال أبو ذر لمعاوية (رضي الله عنهما): ما يدعوك إلى أن تُسَمِّيَ مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟ قال: فلا تقله، قال: لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين. قال: وأتى ابنُ السوداء [اليهودي]، أبا الدرداء، فقال له: من أنت، أَظُنُّكَ واللهِ يهوديًّا. فأتى عبادة بن الصامت، فتعلّق به، فأتى به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر... إلخ القصة. فهذا اليهودي، لما علم عجزه وعجز قومه، عن محاربة الإسلام والمسلمين لجأ لهذه المكيدة، وهو دفع أصحاب النيات الحسنة والمقصد الصحيح إلى التحريض والتشويش وإثارة الناس ضد الخلافة الإسلامية»[9].
«وهذا يعطي العاقل المتبصِّر درسًا في أن النِّيَّةَ الحَسَنة والقصد الصحيح لا يكفي المرء في الإقدام والتسرع في الأمور المهمة التي يترتب عليها الإضرار بالمجتمع والإخلال بالأمن وشيوع الفتنة. بل يجب على المسلم أن يكون ذا فطنة وتبصر في الأمور، ونظر إلى المصالح العامة على ضوء القواعد الشرعية.وأن لا يندفع مع عواطفه. ولهذا لما جاء عبد الله بن سبأ إلى أبي الدرداء، وذكر له ما ذكر لأبي ذر عرفه وأدرك مكره وخبثه، فقال له: من أنت؟ أظنك والله يهوديًّا. فلما لم يجد عنده قبولاً ذهب لعبادة بن الصامت، ولما عرض عليه فكره عرف أنه هو السبب في إثارة أبي ذر.فأخذه وذهب به إلى معاوية، وقال له: هذا هو صاحب الفكر الفاسد، و[تقدم أنَّ] مِن مفاسده إثارة الرعاع على عثمان (رضي الله عنه) الخليفة الراشد المشهود له بالجنة حتى قتل»[10].
فعلينا أن نعتبر أيها المسلمون!: أن مكر اليهود ودسائسهم وأفاعيلهم الشنيعة بأمة الإسلام: ليست فقط في القصف بالطائرات والصواريخ، وليست بالاكتساح بالدبابات، ليست فقط بالتقتيل والتشريد والتخريب والتدمير، بل إنهم أفسدوا -ولا يزالون- العقائدَ والأديان والقلوب، بما بَثُّوا ويَبُثُّونَ من فتنٍ مهلكة، وشبهاتٍ مُضِلَّةٍ، وبما رَوَّجُوا لفتن الشهوات؛ شهواتِ البطون والفروج...
فلا عاصم لنا -أيها المسلمون!-: إلا الرجوع إلى ما كان عليه المسلمون الأولون، قبل حدوث الفتن... إلى ما كانت عليه الأمة زمانَ عافيتها، وأيامَ اجتماعها ووَحْدَتِهَا؛ كما قال (صلى الله عليه وسلم): «إنَّ هذه الأمة جُعِلَتْ عافيتُهَا في أولها، وسَيُصِيبُ آخرَها بلاء... »، ... كانوا على الدين القويم، والصراط المستقيم، ما عرفوا تلك البدع والمقالات المحدثة، التي وُجِدَتْ بعدهم، ما عرفوا تلكم الفرق والطوائف، التي مَزَّقَتِ الأمةَ بعدهم! كانت عقيدتهم واحدة، وسبيلهم واحدًا، وطريقتهم مُتَّحِدَة، تلك الجماعةُ التي كان عليها أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، تلك الجماعة التي أُمِرْنَا بالاعتصام بها، ودعانا ربُّنَا في محكم كتابه إليها: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران:103]
[1] - «البداية» للحافظ ابن كثير(7/157).
[2] - ابن حزم: «الفصل» (3/112).
[3] - ابن حزم: «الفصل» (3/112).
[4] - ابن حزم: «الفصل» (3/10).
[5] - النجار: «الخلفاء الراشدون»(ص:227).
[6] - النجار: «الخلفاء الراشدون»(ص:227).
[7] - «البداية» للحافظ ابن كثير(7/157).
[8] - النجار: «الخلفاء الراشدون»(ص:228).
[9] - الشيخ علي بن ناصر الفقيهي: «الوصايا»(المجموعة السابعة) (ص:71-73).
[10] - الشيخ علي بن ناصر الفقيهي: «الوصايا»(المجموعة السابعة) (ص:71-73).