( من كتابنا نشأة الشعر العربي السعودي واتجاهاته الفنية )
الجزء الأول
لم تقف حركة التطور الموسيقية للقصيدة العربية عند حدود التحرر الجزئي من قيود القافية ، بل تخطتها إلى بعد من ذلك ، فقد ظهرت محاولة جديدة وجادة في ميدان التجديد الموسيقى للشعر العربي عرفت " بالشعر الحر " .
وكانت هذه المحاولة أكثر نجاحا من سابقتها كمحاولة الشعر المرسل ، أو نظام المقطوعات ، وقد تجاوزت حدود الإقليمية لتصبح نقلة فنية وحضارية عامة في الشعر العربي ، ولم يمض سنوات قلائل حتى شكل هذا اللون الجديد من الشعر مدرسة شعرية جديدة حطمت كل القيود المفروضة على القصيدة العربية ، وانتقلت بها من حالة الجمود والرتابة إلى حال أكثر حيوية وأرحب انطلاقا .
وبدأ رواده ونقاده ومريدوه يسهمون في إرساء قواعد هذه المدرسة التي عرفت فيما بعد بمدرسة الشعر الحر ، ومدرسة شعراء التفعيلة أو الشعر الحديث ، وفي هذا الإطار يحدثنا أحد الباحثين قائلا " لقد جاءت خمسينيات هذا القرن بالشكل الجديد للقصيدة العربية ، وكانت إرهاصاتها قد بدأت في الأربعينيات ، بل ولا نكون مبالغين ( إذا قلنا ) في الثلاثينيات من أجل التحرك إلى مرحلة جديدة ، مدعاة للبحث عن أشكال جديدة في التعبير ، لتواكب هذا الجديد من الفكر المرن ... وقد وجدت مدرسة الشعر الحر الكثير من المريدين ، وترسخت بصورة رائعة في جميع البلدان بدءا ( بالملائكة والسياب والبياني ) في العراق في الأربعينيات ، ثم ما لبثت هذه الدائرة أن اتسعت في الخمسينيات فضمت إليهم شعراء مصريين آخرين مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازي ، وفي لبنان ظهر أحمد سعيد ( أدونيس ) وخليل حاوي ويوسف الخال ، وكذلك فدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوسي في فلسطين ، أما في السودان فقد برز في الأفق نجم كل من محمد الفيتوري وصلاح محمد إبراهيم .
مسميات الشعر الحر وأنماطه :
لقد اتخذ الشعر الحر قبل البدايات الفعلية له في الخمسينيات مسميات وأنماطا مختلفة كانت مدار بحث من قبل النقاد والباحثين ، فقد أطلقوا عليه في إرهاصاته الأولى منذ الثلاثينيات اسم " الشعر المرسل " " والنظم المرسل المنطلق " ranning blank veres و " الشعر الجديد " و " شعر التفعيلة " أما بعد الخمسينيات فقد أطلق عليه مسمى " الشعر الحر " ومن أغرب المسميات التي اقترحها بعض النقاد ما اقترحه الدكتور إحسان عباس بأن يسمي " بالغصن " مستوحيا هذه التسمية من عالم الطبيعة وليس من عالم الفن ، لأن هذا الشعر يحوى في حد ذاته تفاوتا في الطول طبيعيا كما هي الحال في أغصان الشجرة وأن للشجرة دورا هاما في الرموز والطقوس والمواقف الإنسانية والمشابه الفنية .
أما أنماطه فهي أيضا كثيرة وقد حصرها ( س . مورية ) في دراسته لحركات التجديد في موسيقى الشعر العربي الحديث في خمسة أنماط من النظم أطلق عليها جميعا مصطلح الشعر الحر فيما بين عامي 1926 م ـ 1946 م وها هي بتصرف .
النمط الأول :استخدام البحور المتعددة التي تربط بينها بعض أوجه الشبه في القصيدة الواحدة ، ونادرا ما تنقسم الأبيات في هذا النمط إلى شطرين . ووحدة التفعيلة فيه هي الجملة التي قد تستغرق العدد المعتاد من التفعيلات في البحر الواحد أو قد يضاعف هذا العدد وقد اتبع هذه الطريقة كل من أبى شادي ومحمد فريد أبي حديد .
النمط الثاني : وهو استخدام البحر تاما ومجزوءا دون أن يختلط ببحر آخر في مجموعة واحدة مع استعمال البيت ذي الشطرين ، وقد ظهرت هذه التجربة في مسرحيات شوقي .
النمط الثالث : وهو النمط الذي تختفي فيه القافية وتنقسم فيه الأبيات إلى شطرين كما يوجد شيء من عدم الانتظار في استخدام البحور ، وقد اتبع هذه الطريقة مصطفى عبد اللطيف السحرتى .
النمط الرابع : وهو النمط الذي يختفي فيه القافية أيضا من القصيدة وتختلط فيه التفعيلات من عدة بحور ، وهو أقرب الأنماط إلى الشعر الحر الأمريكي ، وقد استخدمه محمد منير رمزي .
النمط الخامس : ويقوم على استخدام الشاعر لبحر واحد في أبيات غير منتظمة الطول ونظام التفعيلة غير منتظم كذلك ، وقد استخدم هذه الطريقة كل من علي أحمد باكثير وغنام والخشن .
وهذا النمط الأخير من أنماط الشعر الحر التي توصل إليها موريه هو فقط الذي ينطبق عليه مسمى الشعر الحر بمفهومه بعد الخمسينيات ، والذي نشأت أولياته على يد باكثير ـ كما ذكر موريه ـ ومن ثم أصبحت ريادته الفعلية لنازك الملائكة ومن جاء بعدها ، ولتأكيد هذا الرأي نوجز مفهوم الشعر الحر في أوائل الخمسينيات وجوهره ونشأته ودوافعه وأقوال بعض النقاد والباحثين حوله .
مفهوم الشعر الحر :
تقول نازك الملائكة حول تعريف الشعر الحر ( هو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت وإنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر ويكون هذا التغيير وفق قانون عروضي يتحكم فيه ) .
ثم تتابع نازك قائلة " فأساس الوزن في الشعر الحر أنه يقوم على وحدة التفعيلة والمعنى البسيط الواضح لهذا الحكم أن الحرية في تنويع عدد التفعيلات أو أطوال الأشطر تشترط بدءا أن تكون التفعيلات في الأسطر متشابهة تمام التشابه ، فينظم الشاعر من البحر ذي التفعيلة الواحدة المكررة أشطراً تجري على هذا النسق :
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
ويمضي على هذا النسق حرا في اختيار عدد التفعيلات في الشطر الواحد غير خارج على القانون العروضي لبحر الرمل جاريا على السنن الشعرية التي أطاعها الشاعر العربي منذ الجاهلية حتى يومنا هذا .
ومن خلال التعريف السابق تؤكد نازك ما توصل إليه موريه في النمط الخامس من أنماط الشعر الحر الذي أشرنا إليه سابقا والذي يعتمد على البحر الواحد في القصيدة مع اختلاف أطوال البيت وعدد التفعيلات ، مع تعديل يسير في تعريف موريه وهو أن تضع كلمة شطر بدلا من كلمة بيت ليستقيم التوافق مع مفهوم الشعر الحر بعد الأربعينيات لأن كلمة بيت تعني التزام نظام الشرطين المتساويين في عدد التفعيلات والروي الواحد ، وهو النظام المتبع في القصيدة التقليدية بشكلها الخليلي ، والشعر الحر الذي يعنيه موريه ليس كذلك .
وقد أشار الدكتور محمد مصطفى هدارة إلى نظام التفعيلة في الشعر الحر وعدم التزامه بموسيقى البحور الخليلية فقال : " إن الشكل الجديد ( أي الشعر الحر ) يقوم على وحدة التفعيلة دون التزام الموسيقى للبحور المعروفة ، كما أن شعراء القصيدة الحرة يرون أن موسيقى الشعر ينبغي أن تكون انعكاسا للحالات الانفعالية عند الشاعر .
ومما سبق تتضح لنا طبيعة الشعر الحر ، فهو شعر يجري وفق القواعد العروضية للقصيدة العربية ، ويلتزم بها ، ولا يخرج عنها إلا من حيث الشكل ، والتحرر من القافية الواحدة في أغلب الأحيان . فالوزن العروضي موجود والتفعيلة ثابتة مع اختلاف في الشكل الخارجي ليس غير ، فإذا أراد الشاعر أن ينسج قصيدة ما على بحر معين وليكن " الرمل " مثلا استوجب عليه أن يلتزم في قصيدته بهذا البحر وتفعيلاته من مطلعها إلى منتهاها وليس له من الحرية سوى عدم التقيد بنظام البيت التقليدي والقافية الموحدة . وإن كان الأمر لا يمنع من ظهور القافية واختفائها من حين لآخر حسب ما تقتضيه النغمة الموسيقية وانتهاء الدفقة الشعورية .
وإنما الشطر هو الأساس الذي تبنى عليه القصيدة ـ وقد رأى بعض النقاد أن نستغني عن تسمية الشطر الشعري بالسطر الشعري ـ وله حرية اختيار عدد التفعيلات في الشطر الواحد وذلك حسب الدفق الشعوري عنده أيضا ، فقد يتكون الشطر من تفعيلة واحدة ، وقد يصل في أقصاه إلى ست تفعيلات كبيرة " كمفاعلين ومستفعلن " ، وقد يصل إلى ثمان صغيرة إذا كان البحر الذي استخدمه الشاعر يتكون من ثماني تفعيلات صغيرة كفعولن وفاعلن ، غير أن كثير من النقاد لم يحدد عدد التفعيلات في الشطر الواحد ، وإنما تركت الحرية للشاعر نفسه في تحديدها كما أسلفنا " وفقا لتنوع الدفقات والتموجات الموسيقية التي تموج بها نفسه في حالتها الشعورية المعينة " .
أما من حيث القافية فيحدثنا الدكتور عز الدين إسماعيل قائلا : " فالقافية في الشعر الجديد ـ بباسطة ـ نهاية موسيقية للسطر الشعري هي أنسب نهاية لهذا السطر من الناحية الإيقاعية ومن هنا كانت صعوبة القافية في الشعر الجديد وكانت قيمتها الفنية كذلك ... فهي في الشعر الجديد لا يبحث عنها في قائمة الكلمات التي تنتهي نهاية واحدة ، وإنما هي كلمة " ما " من بين كل كلمات اللغة ، يستدعيها السياقان المعنوي والموسيقي للسطر الشعري ، لأنها هي الكلمة الوحيدة التي تضع لذلك السطر نهاية ترتاح النفس للوقوف عندها .
ومع أن الشاعر الذي يكتب قصيدة الشعر الحر ، يمكنه استخدام البحور الخليلية المفردة التفعيلات والمزدوجة منها على حد سواء إلا أن البحور الصافية التفعيلات هي أفضل البحور التي يمكن استخدامها وأيسرها في كتابة الشعر الحر ، لاعتمادها على تفعيلة مفردة غير ممزوجة بأخرى حتى لا يقع الشاعر في مزالق الأخطاء العروضية ، أو يجمع بين أكثر من بحر في القصيدة الواحدة .
والبحور الصافية التفعيلات هي : التي يتألف شطرها من تكرار تفعيلة واحدة ست مرات كالرمل والكامل والهزج والرجز والمتقارب والمتدارك . كما يدخل ضمن تلك البحور مجزوء الوافر " مفاعلتن مفاعلتن " . وهذا ما جعل نازك الملائكة تقرر بان الشعر الحر جاء على قواعد العروض العربي ، ملتزما بها كل الالتزام ، وكل ما فيه من غرابة أنه يجمع الوافي والمجزوء والمشطرور والمنهوك جميعا . ومصداقا لما نقول أن نتناول أي قصيدة من الشعر الحر ، ونعزل ما فيها من مجزوء ومشطور ومنهوك ، فلسوف ننتهي إلى أن نحصل على ثلاث قصائد جارية على الأسلوب العربي دون أية غرابة فيها .
جوهر الشعر الحر :
أما جوهره فهو التعبير عن معاناة الشاعر الحقيقية للواقع التي تعيشه الإنسانية المعذبة .
فالقصيدة الشعرية إنما هي تجربة إنسانية مستقلة في حج ذاتها ، ولم يكن الشعر مجرد مجموعة من العواطف ، والمشاعر ، والأخيلة ، والتراكيب اللغوية فحسب ، وغنما هو إلى جانب ذلك طاقة تعبيرية تشارك في خلقها كل القدرات والإمكانيات الإنسانية مجتمعة ـ كما أن موضوعاته هي موضوعات الحياة عامة ، تلك الموضوعات التي تعبر عن لقطات عادية تتطور بالحتمية الطبيعية لتصبح كائنا عضويا يقوم بوظيفة حيوية في المجتمع . ومن أهم تلك الموضوعات ما يكشف عما في الواقع من الزيف والضلال ، ومواطن التخلف والجوع والمرض ، ودفع الناس على فعل التغيير إلى الأفضل .
نشأة الشعر الحر ودوافعه ومميزاته :
تقول نازك الملائكة " كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947 م في العراق ، ومن العراق ، بل من بغداد نفسها ، وزحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله ، وكادت بسبب الذين استجابوا لها ، تجرف أساليب شعرنا الأخرى جميعا ، وكانت أولى قصيدة حرة الوزن تنشر قصيدتي المعنونة " الكوليرا " ، تم قصيدة " هل كان حبا " لبدر شاكر السياب من ديوانه أزهار ذابلة ن وكلا القصيدتين نشرتا في عام 1947 م .
عير أن نازك وغي مقدمة كتابها " قضايا الشعر المعاصر " الذي نقلنا منه النص السابق ، تعترف بأن بدايات الشعر الحر كانت قبل عام 1947 م فتقول : " في عام 1962 م صدر كتابي هذا وفيه حكمت بأن الشعر الحر قد طلع من العراق ، ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربي ، ولم أكن يوم قررت هذا الحكم أدري أن هناك شعرا حرا قد نظم في العالم العربي قبل سنة 1947 م ، سنة نظمي لقصيدة " الكوليرا " ، ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة 1932 م ، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين ، لنني لم أقرأ بعد تلك القصائد من مصادرها ، وإذا بأسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم على أحمد باكثير ، ومحمد فريد أبي حديد ، ومحمود حسن إسماعيل ، وعرار شاعر الأردن، ولويس عوض وسواهم .
وعبثا تحاول نازك بعد أن ايثقنت أن أوليات الشعر الحر لم تكن لها ، وذلك باعترافها الذي دوناه سابقا ـ أن تجعل موطن الشعر الحر هو العراق ـ وإن كان ذلك لا يؤثر لا من قريب ولا من بعيد على نشأة أي عمل أدبي أن يكون من العراق ، أو من مصر ، أو من الحجاز ، أو غيرها من أقطار الوطن العربي ، وإنما الغرض هو تصحيح مسار النشأة وتاريخها ليس غير ـ فتقول نازك " ثم أن الباحث الدكتور أحمد مطلوب قد أورد في كتابه النقد الأدبي الحديث في العراق قصيدة من الشعر الحر عنوانها " بعد موتي " نشرتها جريدة العراق ببغداد سنة 1921 م تحت عنوان النظم المطلق ، وفي تلك السن المبكرة من تاريخ الشعر الحر لك يجرؤ الشاعر على إعلان اسمه ، وغنما وقع ( ب ن ) " ثم تذكر نازك جزءا من القصيدة ، وتعقب قائلة : " والظاهر أن هذا أقدم نص من الشعر الحر " ، وقد أحسنت نازك عندما قالت ( والظاهر أن هذا أقدم نص من الشعر الحر ، لأنها حينئذ لم تجزم بأقدمية النص ، وبالفعل أثبتت الدراسات الأدبية بأن هذا النص لم يكن أقدم نص ، وإنما هناك ما هو أقدم منه إن لم يكن في نفس الحقبة الزمنية . ـ وسوف نتحدث عن ذلك النص الشعري في موضعه عند حديثنا عن الشعر الحر عن الشعراء السعوديين إن شاء الله .
ثم تحاول نازك مرة أخرى نفي تلك البدايات ن فتطرح سؤالا تبرز من خلال إجابته أن تلك البدايات غير موفقة ، أو لم تخضع لشروط ومواصفات معينة سنعرفها فيما بعد ، فتقول : " هل نستطيع أن نحكم بأن حركة الشعر الحر بدأت في العراق سنة 1921 م ، أو أنها في مصر سنة 1923 م .
وبالفعل أن ما توصلت إليه نازك من خلال إجابتها بنفسها على سؤالها المطروح آنفا يؤكد من جانبها نفي الحكم عن بدايات تلك الحركة ، لأنها لم تنطبق عليها الشروط التي رسمتها لفاعلية تلك الأوليات ، ومن هنا احتفظت نازك لنفسها بفضل السبق في ولادة الشعر الحر عام 1947م ، وكأن ما ولد قبل ذلك كان خداجا ، ولم يستوف مدة الحمل التي حددتها السيدة نازك لمثل هذه البدايات الفنية .
أما الشروط التي فرضتها لتطبيقها على تلك الأوليات هي : ( بتصرف )
1 ـ أن يكون ناظم القصيدة واعيا إلى أنه قد استحدث بقصيدته أسلوبا وزنيا جديدا .
2 ـ أن يقدم الشاعر قصيدته تلك أو قصائده مصحوبة بدعوة إلى الشعراء يدعوهم فيها إلى استعمال هذا اللون في جرأة وثقة .
3 ـ أن تستثير دعوته صدى بعيدا لدى النقاد والقراء .
4 ـ أن يستجيب الشعراء للدعوة ، ويبدؤوا فورا باستعمال اللون الجديد .
وبتلك الشروط الآنفة تنفي نازك البدايات الأولى للشعر الحر سواء أكانت في العراق سنة 1921 م أو في مصر سنة 1932 م ، لأنها لم تنطبق على تلك الأعمال الشعرية ، والتي تعتبر الإرهاصات الأولى للشعر الحر . كما أن نازك بهذه الشروط كأنها نصبت نفسها حاميا ومقننا للشعر الحر ، فما تجاوز منه هذه الشروط التي لا تمت لفنيات القصيدة بصلة لا يعد منه .
وإذا كانت هذه الشروط التي وضعتها نازك باختيارها الشخصي لم تنطبق على الأعمال التي أشارت إليها بنفسها ن هل يعني هذا أن نسلم أن بدايات الشعر الحر لك يكن لها وجود قبل عام 1947 م ، وهو التاريخ الذي حددت فيه نازك البداية الفعلية لهذا اللون من الشعر ؟
إن الإجابة على هذا السؤال ـ في رأيي ـ تحتاج إلى وقفة متأنية ، لأن نازك عندما قررت تلك البداية لم تطلع على الأعمال الشعرية الأخرى لشعراء آخرين غير التي اطلعت عليها في الشعر الحر قبل عام 1947 م ، ولها في ذلك عذر ، لأنه حينئذ ليس من اليسير على الإنسان أن يكون على علم كامل بكل ما أنتجه الشعراء ، أو الأدباء في حقبة زمنية ليست بالقصيرة ، وعلى اتساع أقطار العالم العربي ، في فترة كانت وسائل الإعلام والنشر أعجز مما أن تؤدي مهمتها بنجاح ، وإن كان الأمر يتطلب بعدم الجزم في مثل هذه الأحوال ـ بأن الساحة الأدبية خلو تماما من أمثال هذه الأعمال الأدبية ، وهذا ما وقعت فيه نازك عندما ظنت أنه لم يسبقها إلى هذا العمل أحد من الشعراء ، فأصدرت حكمها وأطلقته ، وقررت أن البدايات الفعلية للشعر الحر كانت في العراق ن ومن بغداد بالذات عام 1947 م .
وبعد هذا العرض المفصل لنشأة الشعر الحر ، إن ما نريد الوصول إليه أن السيدة نازك الملائكة قد حكمت وأطلقت الحكم وعممته دون ترو منها ، لأن هناك بدايات غير التي أشارت إليها أيضا ، وإن كانت هذه البدايات لم تحفل باهتمامها ، أو لم تنطبق عليها شروطها ، فإن هذه البدايات ربما تكون ذا شأن في تحديد نشأة الشعر الحر تحديدا فعليا ، ويحسم الموقف ، على الرغم بأننا لا نريد أن نجزم بأنها قد تكون البداية الأولى أيضا فنطلق الحكم ونعممه ، ونقع فيما وقعت فيه نازك ، لن التاريخ ربما يثبت غير ذلك فيما بعد . أما هذه البدايات فسوف نتحدث عنها في موضعها إن شاء الله ، وقد ألمحنا لهذا سابقا .
الجزء الثاني
دوافعه ومميزاته :
لقد أكدت الأبحاث الأدبية والنقدية التي دارت حول مفهوم الشعر وجوهره أن هذا اللون من الشعر لم ينشأ من فراغ ، وتلك قاعدة ثابتة في كل الأشياء التي ينطبق عليها قانون الوجود والعدم تقريبا . فما من عملية خلق أو إيجاد إلا ولها مكونات ودوافع تمهد لوجودها وتبشر بولادتها كما أنه لا بد من وجود المناخ الملائم والبيئة الصحية التي ينمو فيها هذا الكائن أو تلك .
وكذلك الشعر فهو كالكائن الحي ـ إن لم يكن كائناً حياً كغيره من الكائنات الأخرى كما يذكر مؤرخو الأدب والنقاد ـ الكائن الذي يولد صغيراً ثم يشتد ويقوى على عنفوان الصبا والشباب وأخيراً لا يلبث أن يشيخ ويهرم بمرور الزمن وتقادم العهد وإن كان في النهاية لا يموت كغيره من الكائنات الحية وإنما يبقى خالداً ما بقى الدهر إلا ما كان منه لا يستحق البقاء فيتآكل كما تتآكل الأشياء ويبلى ثم ينقرض دون أن يترك أثراً أو يخلف بصمة تدل عليه .
ومن هذا المنظور كان الشعر الحر ـ ولا أريد أن أقول الشعر الحديث أو الجديد لأن الحداثة والجدة شيء نسبي لا تتغير بتغير الزمن وتتقادم بقدمه فما هو جديد اليوم يصبح قديماً غداً وما كان جديداً بالأمس يصبح اليوم قديماً ـ كان وليد دوافع وأسباب تضافرت معاً وهيأت لولادته كغيره من الأنماط الفنية الأخرى التي تولد على أنقاض سابقتها بعد أن شاخت وهرمت وأمست أثراً من آثار الماضي وربما تلازمها وتسير إلى جانبها ما دام لكل منها ملامحه الخاصة وأنصاره ومؤيدوه .
وقد رأى كثير من الباحثين والنقاد أن من أهم العوامل التي ساعدت على نشأة الشعر الحر وهيأت له إنما تعود في جوهرها إلى دوافع اجتماعية وأخرى نفسية بالدرجة الأولى إلى جانب بعض العوامل الأخرى المنبثقة عن سابقتها .
فالدوافع الاجتماعية تتمثل فيما يطرأ على المجتمع من مظاهر التغيير والتبديل لأنماط الحياة ومكوناتها وللبنية الاجتماعية والتكوين الحضاري والأيدلوجي ، والشاعر المبدع كغيره من أفراد المجتمع ـ وإن كان يمثل شريحة مثقفة ـ يتأثر ويؤثر في الوسط الذي يعايشه ، فإذا رأى أن الإطار الاجتماعي ومكوناته أصبح عاجزاً عن مواكبة الركب الحضاري المتقدم في حقبة زمنية ما أحس في داخله رغبة إلى التغيير ، وأن هناك هاجساً داخلياً يوحي إليه بل ويشده إلى خلق نمط جديد ولون مغاير لما سبق ليسد الفراغ الذي نشأ بفعل التصدع القوى في البنية الاجتماعية للأمة ، ولم يكن أمام الشاعر ما يعبر عنه عن هذا التغيير الملح والذي يؤيده إلا بالشعر ، فهو أداته ووسيلته التي يملك زمامها وله حرية التصرف فيها فيصب عليه تمرده وثورته مبدعاً وخالقاً ومبتكراً ومغيراً ومجدداً كيفما تمليه عليه النزعة الداخلية لبواطن النفس تعبيراً عن ذاتية نزعت إلى التغيير والتحرير في البناء الاجتماعي المتصدع ومعطياته ومكوناته الأساسية لما تقتضيه سبل الحضارة وعوامل التطور .
أما الدوافع النفسية فهي انعكاس لما يعانيه الشاعر من واقع مؤلم نتج عن الكبت الروحي والمادي الذي خلقه الاستعمار على عالمنا العربي ، وكانت نتيجته وأد الحريات في نفوس الشعوب وقتل الرغبة في التطلع إلى الحياة الفضلى مما أدى إلى الشعور بالغبن والظلم والاستبداد والضيق الشديد والمعاناة الجامحة من هذا التسلط الذي نمى في النفوس حب الانطلاق والتحرر من عقال الماضي ، وأوجد الرغبة في التحرر على المخلفات البالية ـ فتولد عن الميل بل الجنوح إلى خلق نوع جديد من العطاء الفني تلمس فيه الأمة بأنها بدأت تستعيد نشاطها وحريتها ، وأن سحابة الكبت المخيمة على سمائها قد تبددت وإلى الأبد وأعقبها الغيث الذي سيغسل النفوس من أدرانها ويعيد إليها حيويتها وجدتها ، وما هذا العطاء الفني المتجدد إلا ثمرة من ثمار الثورة والتمرد على الواقع المرير والبوح بالمعاناة التي يحس بها الشاعر ، وترجمة لنوازع نفسية داخلية تميل إلى الرفض وتنزع إلى العطاء المتجدد .
وإلى جانب الدافع الاجتماعي والنفسي ثَمَّ دوافع أخرى لا تق أهمية عن سابقتها بل هي وليدة عنها ، منها " النزعة إلى تأكيد استقلال الفرد التي فرضت على الشعراء الشبان البعد عن النماذج التقليدية في الشعر العربي ، وإبراز ذاتيتهم بصورة قوية مؤكدة " .
كما يؤكد الدكتور محمد النويهي بأن الدافع الحقيقي إلى استخدام هذا اللون من الشعر هو " الرغبة في استخدام التجربة مع الحالة النفسية والعاطفية للشاعر ، وذلك لكي يتآلف الإيقاع والنغم مع المشاعر الذاتية في وحدة موسيقية عضوية واحدة " .
أما مميزات الشعر فلا تقل أهمية عن غيرها من مميزات المدارس الشعرية الأخرى بل ربما كان هذا اللون من الشعر أكثر تحقيقاً لبعض العناصر التي لم تتوفر في الأنماط الشعرية الأخرى كالوحدة العضوية مثلاً ، وفي هذا الإطار يقول أحد الباحثين : " وإذا كان شعراء المدرسة الرومانسية قد نجحوا في تحقيق الوحدة الموضوعية للقصيدة الشعرية ، فإن شعراء مدرسة الشعر الحر قد وفقوا في تحقيق الوحدة العضوية المبنية على التناسق العضوي بين موسيقى اللفظ أو الصورة وحركة الحدث أو الانفعال الذي يتوقف عليه " .
ثم يواصل الباحث حديثه قائلاً : " وإن هذا بدوره يؤدي إلى إبراز مظاهر النمو العضوي للانفعالات والمشاعر ، ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا كان الشكل الجديد للقصيدة العربية أقرب معانقة لروح العصر الذي نعيشه وأكثر استيعاباً لمضامينه الحية ، بالإضافة إلى ما يتميز به من مرونة في موسيقاه حيث تتلون بتلون الانفعال ، وتنمو بنمو الموقف وديمقراطية اللغة حيث تقترب هذه اللغة من الإنسان العادي في الشارع والمصنع والحقل ، وكذلك ربما يرمز إليه من تعدد في التشكيل وترادف في التركيب وموضوعية في الرصد وشمولية في التمثيل والهروب من الذات " .
وقد أشار إلى بعض الميزات السابقة أحد الباحثين أيضاً قال : " وقد تميزت قصيدة الشعر الحر بخصائص أسلوبية متعددة فقد اعتمدت على الوحدة العضوية ، فلم يعد البيت هو الوحدة وإنما صارت القصيدة تشكل كلاماً متماسكاً ، وتزاوج الشكل والمضمون ، فالبحر والقافية والتفعيلة والصياغة وضعت كلها في خدمة الموضوع وصار الشاعر يعتمد على " التفعيلة " وعلى الموسيقى الداخلية المناسبة بين الألفاظ " .
وخلاصة القول إن انطلاقة القصيدة العربية وتحررها من عقالها جعلها أكثر مرونة وحيوية وتجاوباً مع نوعية الموضوع الذي تكتب فيه ، ومنحت الشاعر الفرصة في التعبير عن مشاعره وتجاربه الشعورية بحرية تامة فلا تقيد بأطوال معينة للبيت الشعري ولا كد للذهن بحثاً عن الألفاظ المتوافقة الروى ليجعل القصيدة على نسق واحد وما تتهيأ تلك الأمور للشاعر إلا على حساب الموضوع من جانب وفقدان الوحدة العضوية وعدم الترابط بين مكونات القصيدة من جانب آخر ، ومن هنا نجد ميل الشعراء المحدثين إلى استخدام قصيدة الشعر الحر للتعبير عن مشاعرهم وذلك لما تميزت به من سمات فنية جمعت فيها إلى جانب الوحدة الموضوعية ، والوحدة العضوية والموسيقية أضف إلى تحررها من القيود الشكلية التي تحد من قدرات الشاعر وانطلاقه في التعبير عن خوالج نفسه بحرية وعفوية تامتين .
قصيدة النثر :
ثم ظهر إلى جانب الشعر الحر محاولة أخرى وهي إن كانت أقل شأناً منه من حيث الانتشار إلا أنها خطيرة في حد ذاتها ، لأنها ستقلب مفاهيم الشعر ومعاييره رأساً على عقب ، وتخرجه عن مساره التي رسمه له الشعراء والنقاد ليسلك دروباً وعرة ربما لا يحظى فيها بالنجاح والقبول حتى من عامة الجمهور الذين عرفوا الشعر في أبسط صورة وزناً وقافية على أقل تقديره ، بله المثقفين وعشاق الأدب تلك المحاولة التي استحدثها بعض الشعراء وأعطوها شكلاً جديداً يغاير شكل القصيدة العربية القديمة كما يخالفها في شكلها الجديد المعروف بالشعر الحر ، وقد أسموا هذا اللون من الكلام أو النثر " قصيدة النثر " أو " الشعر المنثور " .
وهذا النمط من أنماط النثر لا يمت إلى الشعر بصلة ولا يشاركه في عنصر من عناصره اللهم وجود العاطفة والخيال والتصوير وتلك سمات مشتركة في أي عمل فني .
وقد تعرض الدكتور شوقي ضيف للحديث عن هذا النوع من الشعر ـ وأسميته شعراً تجاوزاً ـ فقال : " هناك نمطان ( من الشعر ) الأول يعتمد اعتماداً كبيراً على قوة الخيال والعاطفة والتصوير ولا علاقة له بالشعر حيث يخلو من الوزن والقافية ، والنمط الثاني يعتمد على قافية متنوعة دون الالتزام بالأوزان الشعرية المعروفة وإيقاعاتها ويشبه في أدبنا ما يعرف بالنثر المسجوع " .
ومما تجد الإشارة إليه بأن كلا النمطين لا يمتان للشعر بصلة إذ يفتقران إلى أبسط معاييره وهو الوزن الذي لا شك أنه العلاقة الفارقة بين ما هو شعر وما هو نثر إلى جانب المقومات الفنية الأخرى التي لا غنى عنها في قصيدة الشعر .
ويبدو أن أول من كتب هذا اللون من النثر المسجوع وأسماه شعراً الشاعر محمد منير رمزي والذي قال عنه السحرتي : " لقد أتحف موسيقى الشعر الحر أحد شباب جامعة فاروق الأول بشعر صاف رومانتيكي غارق في الرومانتيكية " .
ثم يستعرض له نتفاً من ذلك الشعر ، يقول محمد منير رمزي :
" إن الليل عميق يا معبودتي ، لكن أعماقه ضاقت بآلامي .... أحكي له في دمعة أشجاني وأرسل في آذان الصمت أغنيتي .... لكن أصداءها ترتد في ذلك إلى قلبي فيطويها " .
البعض يقول : إن " الشعر الحر عجز ، وليس قدرة "
هل هذه المقولة حقيقية ؟
وهل هناك تمايز بين الشعر العمودي ، والشعر الحر ، وأيهما أفضل ؟
وأنت كأديب ماذا تفضل ؟
هذه بعض التساؤلات وردتني من قرائي على المنتديات الأخرى تتعلق بموضوع الشعر الحر فأثبتها تحقيقا للفائدة واستكمالا للموضوع .
الجواب : يقول الأستاذ / عباس محمود العقاد حول مفهوم التجديد في الشعر بوجه عام " إذا أوجزنا قلنا إن التجديد هو اجتناب التقليد ،فكل شاعر يعبر عن شعوره ، ويصدق في تعبيره فهو مجدد ، وإن تناول أقدم الأشياء " .
ويضيف قائلا " وإذا كان التجديد هو اجتناب التقليد ، فالتجديد هو اجتناب الاختلاف ، والمختلف هو كل من يجدد ليخالف ، وإن لم يكن هناك موجب للخلاف " ومن المفهومين السابقين لمعنى التجديد عند العقاد يتضح لنا أن التجديد هو الصدق في التعبير أيا كان نوع الموضوع الذي يطرقه الشاعر أو المبدع بوجه عام ، كما أنه يعني عدم التقليد والوقوع في أحضان القديم الموروث ، ومحاكاته والنسج على منواله ، وإنما هو عملية خلق وإبداع ، تستمد من ذات المبدع ، وبواطن نفسه ، سواء أكان ذلك التجديد في إطار الأوزان والموسيقا الشعرية ، أم في اختيار الموضوعات والألفاظ التي لم يطرقها الآخرون .
غير أن التجديد عند العقاد لا يعني أيضا الاختلاف الذي يهدف إلى مخالفة المألوف ، والخروج عن الأطر التي ينبغي الوقوف عندها ن وفي تصوري أن في ذلك دعوة من العقاد إلى عدم التحرر الكلي ، أو التمرد الكامل على شكل القصيدة العربية ، بحيث لا تخرج عن الأشكال التجديدية التي سارت في ركابها منذ العصر العباسي ، وحتى الأربعينيات من القرن العشرين الميلادي ، التي أخذ فيها التجديد للقصيدة العربية منحى جديدا غير الذي عرفه شعراء العربية في عهودهم المختلفة ، والذي عرف فيما بعد بالشعر الحر .
ولم تكن فكرة التجديد والتحرر من قيود القصيدة العربية سواء في أوزانها ، أو قافيتها أمرا جديدا أو مبتكرا عند الشعراء العرب المحدثين ، وإنما الأمر تجاوز ذلك ليعود بنا إلى الوراء قرونا طوالا لنلتقي فيه مع القصيدة الجديدة الشكل في العصر العباسي ، عندما ظهرت موجة التجديد ، والخروج على الشكل التقليدي المألوف للقصيدة العربية في عصورها الخوالي ، وبرز إلى ساحة الشعر بعض الشعراء المجددين ، أمثال بشار بن برد ، ومن تلاه ، ليحطموا جدر الجمود للقصيدة ، ويحاولوا الخروج من أصداف المألوف ، ويبتكروا شكلا حديدا للقافية عرف بالمخمسات الي تتوالى فيه القصيدة في وحدات خماسية الأشطر على أصل الشعر المعروف باسم المسمط . كما تلاه الشعر المزدوج الذي تتوالى في محدات القصيدة ثنائية الأشطر ، بحيث يتحد كل شطرين في قافية موحدة . ثم شاع التجديد في الشعر العربي على أيدي الشعراء الأندلسيين فظهر منه المشطرات بأنواعها ، كالمثلثات والمربعات والمخمسات والمسمطات والموشحات التي طبقت شهرتها الآفاق في ذلك الحين .
وقد تفنن الشعراء المحدثون في عملية التجديد الموسيقي ، وتنوع القوافي ، واهتموا بها اهتماما بالغا ن وأكثر من عني بتطوير الموسيقى الشعرية ، وتفنن في الأوزان والقوافي في العصر الحديث هم شعراء المهجر كجبران ونعيمة وأبي ماضي ، وأبي شبكة وفرحات ، ثم تلاهم مدرسة الديوان ، فمدرسة أبلو ، وما تلاها من المدارس الشعرية المستحدثة الأخرى .
بيد أن هذه المحاولات التجديدية عند الشعراء العرب المجددين لم تتجاوز السطحية المحدودة لتشكيل موسيقا القصيدة ، ولم تتسع لتصل إلى جوهر التغيير الذي شهدته القصيدة العصرية في ثوبها الجديد الذي يتناسب وما كرا على الحياة من مضامين ، وأفكار وتجارب مختلفة ، وما لازمها من أيدلوجيات وانقلابات حضارية فظهر ما عرف بالشعر المرسل الذي قد يكون الفضل في ظهوره للشاعر الدكتور عيد الرحمن شكري ، الذي قال عنه نقولا حنا في مقدمة ديوان شكري كان له الفضل في أن يكون أول من يثور على القافية ، ويرى فيها عائقا على الوحدة العضوية للقصيدة ، فأدخل الشعر المرسل ، وبذلك أسهم في وضع أساس القصيدة العربية الجديدة .
ولم يلبث أن تنادى غير شاعر في أوائل القرن العشرين بالتحرر من القافية التي تقف سدا يحول دون نظم القصائد الطويلة ، فأسرع توفيق البكري فصنع قصيدة بدون قافية أسماها ذات القوافي ، ثم تلاه الزهاوي ، وعبد الرحمن شكري .
أما مفهوم الشعر المرسل فيعني التزام القصيدة ببحر عروضي واحد مع التحرر من عقال الروي أو ما يعرف بالقافية ، غير أن هذا النمط من الشعر لم يكن ذا شأن في تطوير موسيقا القصيدة العربية ، فهو لم يضف جديدا ، بل تشعر فيه برتابة الموسيقا الناجمة عن انفصال البحر العروضي عن موسيقا القافية المختلفة من القصيدة ، وعدم اطراد النغم الموسيقي في أبياتها لشكل وحدة موسيقية واحدة . لذلك لم يكتب له النجاح والانتشار لعزوف الشعراء عنه ، وعم متابعة اللاحق للسابق في هذا اللون من الشعر .
وقد أدى عزوف الشعراء المحدثين عن كتابة الشعر المرسل للبحث عن نوع أخر من أنواع التجديد ، فالتمسوه في نظام المقطوعات الشعرية التي عرفت بالثنائيات ، والثلاثيات والرباعيات والخماسيات ن وقد تكبر المقطوعة وتصغر في القصيدة الواحدة بحسب تنوع الفكرة التي يتطرق إليها الشاعر من خلال الموضوع الرئيس الذي تحويه القصيدة ككل . ويجب أن يكون عدد أبيات المقطوعات في القصيدة الواحدة متساويا ، وأكثر من عني بهذا النوع من الشعر شعراء المهاجر الأمريكية .
ولم تتوقف حركة التطور الموسيقية للقصيدة العربية عند حدود التحرر الجزئي من قيود القافية بل تخطتها إلى أبعد من ذلك ، فظهرت محاولة جديدة وجريئة وجادة في ميدان التجديد الموسيقي للشعر العربي عرفت بالشعر الحر . وكانت هذه المحاولة أكثر نجاحا من سابقاتها ، وتجاوزت حدود الإقليمية لتصبح نقلة فنية وحضارية عامة في الشعر العربي ، ولم يمض سنوات قلائل حتى شكل هذا اللون الجديد من الشعر مدرسة شعرية جديدة حطمت كل القيود المفروضة على القصيدة العربية ن وانتقلت بها من حالة الجمود والرتبة إلى حالة أكثر حيوية ، وأرحب انطلاقا .
ورغم ظهور هذا النوع من الشعر والذي عرف بالشعر الحر ، أو شعر التفعيلة بقت القصيدة العربية التقليدية الشكل ، ولكنها متجددة في أفكارها ومعانيها ، وصورها ، وألفاظها بقيت لها شعراؤها وقراؤها ومحبوها ، بل وحافظت على مكانتها أمام هذا التيار التجديدي ، وأصبح مقياس التمايز بين النوعين هو قدرة الشاعر على التعبير عن معاناته الحقيقية للواقع الذي تعيشه الإنسانية ، وما تحويه القصيدة من الطاقات التعبيرية التي تشارك في خلقها كل القدرات والإمكانيات الإنسانية مجتمعة وبشكل القصيدة التي يريد ، وتمنحه القدرة على التعبير بحرية مطلقة ليصل إلى تحقيق الغرض الذي يتحدث عنه .
والشاعر الناجح هو الذي يستطيع التوفيق بين اللونين من الشعر ، فقدراته الكتابية تأهله للتعبير عن ذاته ، وخوالج نفسه ، ونقل تجربته إلى المتلقين بوساطة القصيدة العمودية ، أو قصيدة الشعر الحر ، على الرغم أن نظم القصيدة العمودية قد يكون أكثر سهولة من قصيدة شعر التفعيلة ( الشعر الحر ) ، وقد مارس معظم الشعراء المحدثين كتابة النوعين ، وكثير منهم استطاع أن يوازن بين عدد قصائده التي كتبها على صورة القصيدة العمودية ن وبين قصائده التي كتبها على شكل القصيدة الحرة .
أما فيما يتعلق بي كشاعر فلا أرى أن هناك ما يدفعني لتفضيل نوع على آخر ، وقد بدأت تجربتي مع الشعر مبكرة منذ منتصف الستينات ، ولما أتجاوز السابعة عشرة ، وكتبت منذ تلك البدايات القصيدة التقليدية ، وقصيدة الشعر الحر ، والذي كان يفرض عليّ كتابة القصيدة بالشكل الذي تظهر به هو موضوع القصيدة ونوع المعاناة ، ولست أنا الذي أختار ، أو أحدد مسبقا الشكل الذي أريد ، وإن كنت أحيانا أحاول مسبقا تحديد الشكل ، ولكني غالبا لا أوفق في ذلك .
انتهى بحمد الله