العُذْرُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ
أُلقِيَت يوم الجمعة 08 شوال 1436هـ موافق لِـ: 24 جويلية 2015م.
صحَّ من حديثِ عبد الله بن مسعودٍ (رضي الله عنه) قالَ: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، ولِذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ، ولاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ، ولِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، ولاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ
، مِن أَجلِ ذَلِكَ أَنزَلَ الكتابَ وأَرسَلَ الرُّسُلَ»[1]، وفي حديثٍ آخر: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ؛ بَعَثَ اللهُ المُرْسَلِينَ مُبَشِّرين ومُنذِرين».
1 ـ عبادَ الله!.... «لاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ»، العُذرُ الذي هُوَ: الحُجَّةُ الَّتِي يُعْتَذَرُ بِهَا، يُحبُّ اللهُ العُذْرَ، ويُحبُّ الإِعْذَارَ، أي: إِبْدَاء العُذْر، وها هُوَ (جل جلاله) يُبْدِي هذِهِ الأَعْذَار في أفعالِهِ، قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [هود: 101]، وقال: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: 118] وقال: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الدخان: 76]، هكذا أَبْدَى تعالى هذهِ الأَعْذَارَ إلى خَلْقِهِ، وأَحَبَّ إِبْدَاءَ العُذْرِ في فِعْلِهِ – الذي هو إهلاكُ وتعذيبُ أولئكَ الأقوام-، مَع غِنَاهُ تعالى عَن إبْدَاءِ عُذرٍ؛ فهو تعالى لا يَلزَمُهُ في فِعْلِهِ لَوْمٌ، ولا يَلْحَقُهُ مِن غَيْرِهِ عَلَيْهِ نَكِيرٌ، بخلاف المخلوقِ الذي يلحقهٌ اللوم والنَّكِيرُ، ولهُ حدٌّ إذا جاوزه وتعدَّاهُ اعتُرِضَ عليهِ وعُدَّ مُذْنِبًا، فهو محتاجٌ إلى إبداءِ العُذْرِ، فيقولُ معتذِرًا: لم أفعل، أو يقول: فعلتُ ولكن فعلتُ من أجلِ كذا وأردتُ كذا...ويُبدِي حُجَّتَهُ التي يعتذرُ بِهَا.. أمَّا اللهُ سبحانه وتعالى فلاَ حَدَّ لهُ فيُجاوِزُهُ، وهُوَ يَفعَلُ مَا يَفعَلُ فِي مُلْكِهِ، وهُوَ حكيمٌ عالمٌ قادرٌ، يَفعَلُ ما يَشَاءُ، ويَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ، لكنَّهُ تعالى يُحِبُّ إِبْدَاءَ العُذْرِ فَضْلاً مِنْهُ وكَرَمًا...
2 ـ «لاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ»... العُذْرُ، أي: الإِعْذَار، بِمعنى: إِزَالَةُ العُذْرِ والإنذَارُ والإعلامُ قبلَ المُؤاخذَة والمُعاقبَة، وفي المَثَل: «قَد أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ»، وقد كتبَ اللهُ على نفسِهِ أنه لا يُؤاخِذُ عبادَهُ حتَّى يُعْذِرَ إليهم إِعْذَارًا ويُنذِرَهُم إنذارًا، وقَد بَعثَ الأَنبياءَ ﴿مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ؛ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللهِ حُجَّةٌ﴾ – أي: عُذْرٌ، فَالمُرَادُ بِالعُذْرِ: الحُجَّةُ - ﴿بَعدَ الرُّسُل﴾، ولِئَلاَّ يَقُولُوا يَومَ القيامةِ إِنَّا كُنَّا عن هذا غَافِلِينَ، ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]، ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ [المائدة: 19]... فالله تعالى يحبُّ العُذرَ، لذا أعذَرَ إلى عبادِهِ ببعثةِ الرَّسُولِ، وهَذا غَايَةُ المَجْدِ والإِحسانِ ونِهايَةُ الكَمَالِ والاِمْتِنَانِ؛ فهُوَ لاَ يُسْرِعُ بِإِيقَاعِ العُقُوبَةِ مِن غَيرِ إِعذَارٍ مِنهُ، ومِن جُملَةِ إِعْذَارِهِ إلى الناسِ إرسالُهُ بالآياتِ والزَّوَاجِر والتَّخْوِيفَات يُنذِرُهُم بها عذابَهُ، حتَّى يرجعُوا ويُنِيبُوا، فلا حاجةَ للهِ في تعذيبِهم وإهلاكِهِم...
3 ـ «لاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ»... العُذْرُ، بمعنى: التَّوبَة والرُّجُوع والإِنابَة، فاللهُ تعالى يُحبُّ من عبادِهِ أن يعتذِرُوا إليهِ من ذنوبهم بالتوبةِ والاستغفارِ، وهو تعالى يقبَلُ عُذْرَهم أي: تَوبَتَهُم، ويَقْبَلُ اعتِذارَهُم وإنابتهُم، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [التوبة: 104] وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].
«لاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ»...أي: لاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيهِ قَبُولُ العُذرِ مِمَّن اعتَذَرَ إِلَيهِ، وهذا فيهِ دلالةٌ على كَرَمِ اللهِ وقَبُولِهِ عُذْرَ عِبَادِهِ؛ «إِنَّ اللهَ تعالى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشمسُ مِن مَغربِهَا»[2].
فينبغِي لكَ – يا عبدَ الله!- أَن تُكثِرَ المَعاذِيرَ إلى ربِّكَ فِيمَا تَأتِيهِ؛ وذلكَ بالتوبةِ إلى اللهِ والاعتِذَارِ عَن مَعَاصِيهِ بِهَا، فإِنَّ كُلَّ تَوبةٍ عُذْرٌ...
الخُطبة الثانيةُ:
صَحَّ من حديث الأسود بن سريع (رضي الله عنه) عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) قالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ، ولاَ أَحَدَ أَكْثَرُ مَعَاذِيرَ مِنَ اللهِ»[3].
4 ـ عباد الله!.... اللهُ سبحانه رَفِيقٌ بعباده، عظيمُ اللُّطفِ بِهِم عظيمُ الإحسانِ، حيثُ أَعْذَرَ إِلَيهِم مرات ومرات، أعذرَ إليهم أولاً بِبعثةِ الرسول، وأعذرَ إليهِم ثانيًا بجعلِ باب التوبةِ مفتوحًا، وقبولها منهم في أيِّ وقتٍ من مُدَّتِهِم، وقبولها منهم مهما كثرت وعظمت ذُنُوبُهُم، فإذا عذَّبهم الله تعالى وكانُوا ممن يُهلكهم اللهُ، كانُوا قد أعذَرُوا من أنفسهم، كما في الحديث الصحيح: «لَن يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يَعْذِرُوا مِن أَنْفُسِهِم»[4]. فهؤُلاءِ المُعَذَّبُونَ المُهْلَكُونَ قَد أََعْذَرُوا مِن أَنفُسِهم؛ لأَنَّهُم كثُرَتْ ذُنُوبُهم وعُيُوبُهم ولم يتوبوا مِنها ولم يعتذروا، فَيكون لمن يُعَذِّبُهُم العُذْرُ كُلُّ العُذْرِ، يُقالُ: أَعْذَرَ فُلانٌ مِن نَفْسِه، أَي: أُتِيَ من قِبَلِ نَفْسِه، وأقامَ الحُجَّةَ على نفسِهِ بِنَفسِهِ.
5 ـ ومن المعاذير التي يقيمها الله على عباده أن يُبَلِّغَهُم سِنَّ الأَربعين، يُؤَجِّلُهُم ويَزِيدُ في مُدَّتِهِم إلى حَدِّ الأَربعين، فلَيسَ للعبدِ حُجَّةٌ وعُذْرٌ عِندَ اللهِ أن يَقُولَ: لَو فَسَحْتَ لي فِي مُدَّتِي لكُنتُ أَعمَلُ ولكُنتُ وكنتُ... أليسَ في الأربعين ما يَكفِي لرُجُوعٍ وادِّكَارٍ وتوبةٍ وإنابةٍ وتَأَهُّبٍ واستِعدَادٍ للِقاءِ اللهِ؟ قال اللهُ تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾[فاطر: 37]، ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾، قال بعضُ المفسرين: أي: إلى سنِّ الأربعين، وقال بعضُهم: أي: إلى سنِّ الستين، وفي الحديثِ الصحيحِ: «لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إلى عَبدٍ أَحْيَاهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ أو سبعين سنةً لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْهِ»[5]، أَي: لم يُبْقِ فِيهِ مَوْضِعًا للاعْتِذَارِ؛ حيثُ أَمْهَلَهُ طُولَ هذِه المُدَّةِ، ولم يَعْتَذِرْ.
لقد تمَّت حُجَّةُ اللهِ عليهِ، وَأَعْذَرَ إليهِ غَايَةَ الإِعْذَارِ، الَّذِي لاَ إِعْذَارَ بَعدَهُ؛ لأنَّ السِّتِينَ سِنُّ الإِنَابَةِ والخُشُوعِ والاسْتِسْلامِ للهِ تعالى وتَرَقُّبِ المَنِيَّةِ ولِقَاءِ اللهِ تعالى، فهذا إِعْذَارٌ بعدَ إِعْذَارٍ في عُمرِ ابنِ آدمَ.
6 ـ ومِن جُملةِ المعاذيرِ التي أقامها اللهُ على عباده في أعمارِهم هذا الشَّيْبُ، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾، قال بعضُ المفسِّرين: ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾، أي: الشَّيْبُ... فماذا تنتظرُ – يا عبد الله!- وقد جاءتك هذه النُّذُرُ واجتمعت عليكَ كلُّها تُؤكِّدُ عليكَ في المبادَرةِ إلى التوبةِ والمسارعةِ إلى الإنابةِ وتقديمِ الاعتذَارِ إلى اللهِ!