(02)
أُلقِيت يوم الجمعة 2 ذو الحجة 1435هـ- 26 سبتمبر 2014م.
مرَّ معنا في الجمعة الماضية أنَّ الله تعالى يُثبِّتُ الذين آمنوا؛ فهو جلّ وعلا مَعهُم، يُلقي في قلوبهم الأَمن والأَمان ويُقوِّيهِم، والملائكةُ كذلك مع المؤمنين تتنزَّلُ بأَمرِ اللهِ، فتُثبّت الّذين آمنوا، وتُلهِمُهم الثَّبات، بل وتُقاتِلُ معهم. هكذا يكونُ للمُؤمنين التَّثبِيتُ مِن ربِّهم، والكافِرُونَ لا ثَبَاتَ لهُم.
كذلكَ مِن جُند اللهِ الّذين يُثبِّتُ بهم المؤمنين: القَصَصُ
قال الله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾[هود: 120]، «أي: كلُّ الّذي تَحتاجُ إليه مِن أنباءِ الرُّسل، أي: مِن أخبارهم وأخبار الأُمَم نقصُّها عليكَ، لنُثبِّت به فُؤادك، لنَزِيدَكَ يقِينًا[نَزيدُكَ بها تَثبِيتًا ويقينًا]، ونُقوِّي قلبَكَ، وذلك أنَّ النَّبيَّ (صلى الله عليه وسلم) إذا سمِعها، كان في ذلك تَقويةً لقَلبِه على الصَّبر».
ومِن قَصَصِ التَّثبِيت ما قصَّهُ اللهُ تعالى علينا مِن أَمرِ إبراهيمَ الخليل (عليهِ السلام)، فقد كَادُوا لهُ كيدًا عظيمًا، فثَبَّتَهُ ربُّه ونجَّاهُ وحمَاهُ، ذكرَ جلَّ وعلا ذلكَ في ثلاثةِ مواضِع، الموضع الأوّل: قالَ تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)﴾، كسر أصنامهم، إلاَّ الصَّنم الكبير تركه، وجعل الفأسَ بين يديهِ، ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)﴾، وكان إبراهيم حينها شابًّا، قيل:كان عمرهُ ستّة عشر سنة، وقيل: ستّة وعشرون سنةً. ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)﴾، أي: أنتُم الظّالمون حينَ لم تجعلوا مَن يحرس آلهتَكم، وأنتُم الظّالمون إذ تسألون إبراهيم وهُو يستهزئُ بكُم في جوابِهِ. ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)﴾، ثمّ أصرُّوا وكَابَرُوا مع اعترافهم أنَّها لا تنطِق ولا تملكُ النَّفع والضّرّ، ولا تملكُ أن تَدفعَ عن نفسِها، ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)﴾، «تَأَفَّفَ ضَجِرًا منهُم؛ لمَا رأَى مِن ثباتِهم على عبادتها بعد وُضُوح الحقِّ وانقطاعِ عُذرِهم، وزُهُوق الباطِل، فتأَفَّفَ». ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، أفلا تتفكَّرون فيما أنتُم عليهِ مِن الضَّلال والباطل الَّذي لا يَرُوجُ إلاَّ على جاهلٍ وفاجِرٍ وظالِمٍ. ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)﴾.
وقال تعالى في الموضع الثاني في سورة العنكبوت: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾[العنكبوت: 24]، فلمَّا أَلزَمهُم الحُجّة وانقطَعُوا، أخذتهُم العِزّةُ بالإِثم، وثارَت بهم العصبيَّة فعَدَلُوا إلى طريقِ الغَلَبَة والتّسلُّط واستَقْوَوا عليهِ – وهُم أناسٌ مُقتدِرون لهُم السُّلطان- وقالوا: ﴿اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾، فرأوا أن يَحرقُوهُ، والتَّحريق هو أشدُّ وأَفظعُ القَتل، فأرادُوا إعدامَهُ الإعدامَ المحض، وإتلافَهُ بالكليّة، وقال تعالى في الموضع الثالث في سورة الصافات: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)﴾، جمعُوا الحطبَ شهرًا –كما في بعض الأخبار- ثمّ أَوقَدُوها، واشتعلت واشتدّت، حتَّى إنّ الطائر يمرُّ بجنباتها فيَحترقُ مِن شدّة وَهجِها، سمَّاها الله تعالى جحيمًا، والجحيمُ: النَّارُ العظيمة، وكلُّ نارٍ بعضُها فوق بعض فهيَ جحيمٌ. ثمّ قَيَّدُوا إبراهيم ووَضعوهُ في المنجنيق مَغلُولاً، ثمّ رَمَوا بهِ في النّار، فأَقامَ في النّار سبعة أيامٍ لم يقدر أحدٌ أن يَقربَ من النّار.
ولمّا أُلقي في النّار، استغاثَ إبراهيمُ ربَّهُ، وقال – كما في بعض الأخبار-: «إلهي أنتَ الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، لا أحد يَعبدُك غيري، حسبيَ اللهُ ونِعمَ الوكيل». جاءَ في البخاري (4564) عن ابن عباسٍ (رضي الله عنهما) قال: «كانَ آخرَ قولِ إبراهيم حينَ ألقيَ في النارِ: «حسبيَ الله ونعمَ الوكيل»»، وفي بعض الرِّوايات: «أنَّهُ كان أوّل قول إبراهيم». ولم تَبقَ يومئذٍ دابّةٌ إلاّ أَطفأت عنهُ النّارَ إلاّ الوَزَغ؛ فإنّها كانت تَنفخُ عليهِ، فلذلكَ أمرَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) بقتلها وسمَّاها «فُوَيسِقَة».
قال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[الأنبياء: 69]، ﴿قُلْنَا﴾: القائِلُ هُو اللهُ، ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾، أي: ذاتَ بَرْدٍ وسلامةٍ على إبراهيم، لولم يقُل: ﴿وَسَلَامًا﴾ لقَتَلَهُ بَردُها، ولو لم يقُل: ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾، لصارت النّارُ ذاتَ بردٍ أبدًا، ولم ينتفِع بها النَّاسُ.
قال تعالى: ﴿فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[العنكبوت: 24]، فخلَّصَهُ اللهُ، فخرجَ منها سالمًا، وفي ذلكَ أعظمُ آيةٍ. منعَ اللهُ أذَى النَّارِ عنهُ.
وقال تعالى عن إِنْجَاءِ إبراهيمَ مِن النَّار: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ﴾، ولم يقُل: «لآيَةً».
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، أي: دلالات واضِحات وعلامات ظاهرة على عظيمِ قُدرةِ اللهِ وبَديعِ صُنعهِ، حيثُ أَضرَمُوا تلك النّار العظيمة وأَلقَوه فيها، ولم تَحرِقهُ ولا أَثَّرت فيهِ أثرًا.
وإنَّما خُصَّ المؤمنون؛ لأنّهم الّذينَ يَعتبِرونَ بآياتِ الله سبحانه، وأمَّا مَن عَداهُم فهُم عن ذلكَ غافِلُون. خَصَّ المؤمنينَ؛ لأنَّهم المتَّعِظُونَ إذا سمعوا قَصصَ الأنبياء.
قال تعالى: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾[الأنبياء: 70] ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾[الصافات: 98]، كادُوهُ بسُوءٍ فانقلبَ السُّوءُ عليهم، ولم يَنفذ فيهِ مَكرُهم ولا كَيدهُم. وخسروا السَّعيَ والنَّفقةَ، وما حصلَ لهم مُرادُهُم.
﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾، في أعمالهم، ورَدَدنا مَكرهُم عليهم... ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾، جعلناهُم المَقهُورِين المغلُوبِينَ... جعلنا لهُم عاقبةَ السُّوء كما جعلنا لإبراهيمَ عاقبةَ الخير... ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ في الدُّنيا والآخرة،كما جعل اللهُ خليلَهُ وأتباعَهُ هُم الرَّابِحينَ المُفلِحِينَ.
هكذا ثبّتَ اللهُ خليلهُ إبراهيم في ذلكُم الموقف العصِيب، ففوّضَ أمرَهُ إلى ربِّه ووَكلَ إليهِ التّصرُّفَ سبحانهُ، فكانت العاقبَةُ لهُ، وفي هذا تسليةٌ للمؤمنينَ، بِأنَّ التَّثبِيتَ مِن اللهِ يُمِدُّ بهِ عبادَهُ، كما تحصلُ لهم طُمأنينةُ النفس والتّأنيسُ – إذا سمعُوا ما قصَّ اللهُ عليهم- بأنَّ حُسنَ العاقبةِ للأنبياءِ وأتباعهم.
﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ﴾، أي: في هذه القَصص، ﴿الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[هود: 120].
الخطبة الثّانية:
روى البخاري(4563) عن ابن عباسٍ (رضي الله عنهما) قال: « «حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ» قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ (عَلَيْهِ السَّلاَم) حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ قَالُوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران: 173]».
جاء في بعض الرِّوايات: قال ابنُ عباسٍ: «إنَّما نجَا بقَولِهِ: «حسبيَ اللهُ ونِعمَ الوكِيل»».
وقالها محمّدٌ (صلى الله عليه وسلم) بعد انهزامهم يوم أُحُدٍ، جمع لهُم كُفار قريش مرّةً أُخرى وأرسلوا يُهدّدونهم ويَتوعَّدُونهم أنَّهُم راجِعون إليهم يُبِيدُونهم ويَستأصِلونهم بالقَتل، ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، وَتجهَّزُوا لمُلاقاتهم، ﴿فَانْقَلَبُوا﴾، أي: فرجعُوا ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾:لم يُؤذِهم أحدٌ، فرجعُوا سالمينَ ممّا خُوِّفُوا بهِ، وهربَ منهُم عدوُّهم وأَمِنُوا. فحصل لهم بقولِ تلكُم الكلمة: الثَّبَاتُ واستِجمَاعُ القُوّة أوَّلاً، والنَّصرُ واندِحَارُ عدُوِّهم ثانيًا.
﴿حَسْبُنَا اللَّهُ﴾، أي: هو كافِينَا، هو الَّذِي يَكفِينَا أَمرَهُم. ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، أي: المَوكُول إليهِ الأُمُور. ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾: كَافِينَا اللهُ، ونِعمَ الكَافِي، ونِعمَ الحافِظ، الحفِيظ، القَيِّم، والنَّاصِر: اللهُ.